توصل الاتحاد الأوروبي إلى تسوية غير مريحة، وربما لن يكتب لها البقاء طويلاً، ليلة الرابع والعشرين من شهر يونيو الماضي، بمقر مفوضيته العامة في بروكسل. وقد جاءت تلك التسوية إثر جدال طويل ومرير، حول البديل الممكن لمعاهدة دستور الاتحاد، والتي كانت قد رفضتها كل من فرنسا وهولندا قبل نحو عامين. وقد ارتكبت تلك المعاهدة خطاً فادحاً فيما يتعلق بما يطلبه المواطنون الأوروبيون من الاتحاد... أي إقامة مجتمع اقتصادي سياسي أوروبي موحد، وأن يكون هناك شكل من أشكال التحالف، أو إقامة دولة فيدرالية. ولنذكر هنا أن اتفاقية الفحم الحجري والحديد والصلب المبرمة في عام 1951، كانت معاهدة هي الأخرى. وبموجبها اتفق أعداء الحرب القدامى، على وضع صناعاتهم الحربية كلها تحت إدارة موحدة، دون أن تكون المعاهدة محاولة لوضع دول أوروبا الغربية كلها تحت إدارة حكومة فيدرالية واحدة. كما تضمنت الاتفاقية الاحتفاظ بحرية محدودة لحكومات كل من فرنسا وألمانيا وإيطاليا، إضافة إلى دول اتحاد "بنيلوكس" الثلاث (بلجيكا وهولندا ولوكسمبورج) بالسيطرة السيادية على أنواع بعينها من صناعاتها الثقيلة، المرتبطة بحروب القرن العشرين. وكان قد حدث أمران حينها. فقد تصور مؤسسو الهيئة العاملة على تنفيذ تلك المعاهدة، وكذلك الموظفون المدنيون الذين ساهموا في تشكيلها، إمكانية قيام اتحاد أوسع نطاقاً بين الدول الأطراف فيها، سواء تعلق ذلك التصور باتحاد بين الدول، يسمح بدمج السلطات السيادية لتلك الدول الأعضاء مجتمعة. وسعوا إلى ما يشبه شكل الحكومة الفيدرالية الأوروبية، كاستعارة ضمنية فيما يبدو، لتجربة الاتحاد الفيدرالي الأميركي التي شهدها القرن الثامن عشر. وكان ذلك هو الخطأ الأول، طالما أنه يتعذر، لعدة أسباب ثقافية وتاريخية، عقد أي نوع من المقارنة بين أوروبا وأميركا الشمالية. وحتى أولئك المؤسسين الأوائل للاتحاد الأوروبي، ممن أبدوا استعداداً للتنازل الجزئي عن سيادة دولهم لصالح الاتحاد، أظهروا عزماً فعلياً على التمسك بما تبقى لبلدانهم من سيادتها الوطنية. والسبب هو أنهم لم يريدوا لدولهم تلك أن تذوب وتختفي في جسد الاتحاد الجديد. وبالنتيجة فقد بقيت الشعوب نفسها، على قدر كبير من التمسك بسيادتها الوطنية. ثم إن هذا التمسك لا يعود إلى أية مشاعر وطنية مجردة فحسب، إذ تتمسك الشعوب عادة ببرلماناتها الوطنية على سبيل المثال، ولها في ذلك من المبررات ما يكفي، وأوضحها أن البرلمان يمارس السلطة. لهذا السبب، لم يظهر الأوروبيون ما يذكر من الحماس، للبرلمان الأوروبي الذي أنشئ في نهاية الأمر. فميزة البرلمانات الوطنية، أنها قادرة على ممارسة السلطات التي تؤثر على حياة مواطنيها، بينما يتعامل البرلمان الأوروبي مع القضايا التي تؤثر على حياة المواطنين في مستواها الثاني وليس الأول. يضاف إلى ذلك أن المفوضية الأوروبية تظل بعيدة عن المواطنين، إلى جانب عدم تمتعها بالتفويض الشعبي الذي تحظى به البرلمانات الوطنية. نأتي بعدها إلى الحديث عن أن رغبة المفوضية في توسيع عضوية الاتحاد الأوروبي، كانت رغبة نخبوية بالأساس، وليست مطلباً شعبياً بأي حال. وكان قد نُظر إلى أمر تلك التوسعة، باعتبارها وسيلة ضرورية، لتصحيح الأخطاء السياسية الأوروبية التي ارتكبت في كل من يلطا وبوتسدام، في نهاية الحرب العالمية الثانية، وهي أخطاء فادحة لكونها تركت كلاً من منطقتي وسط وشرق أوروبا تحت وطأة النفوذ السوفييتي. ومهما يكن، فإنه لا يزال هناك من يعتقد أن الوحدة الفيدرالية الأوروبية، تظل الهدف الأوروبي الأسمى على الإطلاق، رغم العداء الصريح لفكرة الوحدة الفيدرالية هذه، من قبل الحكومات البريطانية المتعاقبة، سواء أكانت "عمالية" أو "محافظة"، ورغم المعارضة التي تواجهها الفكرة نفسها، على أيدي قوى سياسية عديدة في القارة. وربما كان أفضل مثال نورده هنا، هو فرنسا؛ فقد جاء الرفض الفرنسي، والهولندي أيضاً، لمسودة دستور الاتحاد الأوروبي الجديد، بمثابة صفعة غير متوقعة البتة، لقادة الاتحاد من دعاة فكرة الفيدرالية الأوروبية. بقي القول إن الحاجة لا تزال قائمة لربط الرأي العام الأوروبي بالاتحاد. غير أن توسعة الاتحاد أو حتى "تعميقه"، كما يحلو لبعض المتلاعبين بالألفاظ، لا تبدو هي الاستجابة المثلى لهذه الحاجة. والشاهد أن فكرة الاتحاد، هي فكرة ملهمة لعدد كبير من النخب الأوروبية، لأسباب وجيهة ومعلومة. بيد أن ردة الفعل الشعبية إزاءها، خاصة بالرفض، إنما تعكس وعي الشعوب الأوروبية بجملة المخاطر التي تنطوي عليها في ذات الوقت. وقد نظر إليها الناخبون الهولنديون والفرنسيون على نحو خاص قبل عامين، باعتبارها مهدداً لسيادة بلادهم، طالما أنها تشير إلى توسيع نطاق الهجرة إلى بلدانهم، وطالما أن ترويج فكرة اقتصاديات السوق، تحمل ما تحمل من تهديد لمستوى المعيشة والرعاية الاجتماعية اللذين تتمتع بهما دولهم. وفوق ذلك كله، فإن لتوسعة الاتحاد الأوروبي تأثيراتها السلبية الأخرى، غير المنظورة. وليس أدل على ذلك من انتباه الدول الغربية الأعضاء في الاتحاد لسلوك بولندا في القمة الأوروبية الأخيرة المشار إليها آنفاً، لاسيما ما وجهه ذلك السلوك من ضربة قاضية لآمال وطموحات دول البلطيق وشرق أوروبا للالتحاق بعضوية الاتحاد. ولم تكن بولندا وحدها هي التي أثارت مخاوف الدول الأخرى الأعضاء في الاتحاد، من انضمام هذه الدول الجديدة لعضويته، إنما فعلت الشيء نفسه دول أخرى مثل بلغاريا وجمهورية التشيك، بتقليبها لمواجع ومآسي النازية في بلدانها. ومن هنا فقد كانت ردة فعل "أوروبا العجوز" هي سد الباب الذي تأتي منه الريح لتستريح من الهم الجديد. كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع "تريبيون ميديا سيرفيز"