ما عاد ممكناً تجاهُل الصدْع الديني لدى أهل السنة تحت أي ذريعة. فقد اعتدنا طوال العقدين الماضيين على نسبة كل ظواهر العنف الديني إلى ردّات الفعل على التدخل الأميركي والأجنبي، أو إلى استخدام السلطات في بلدان العالم الإسلامي للعنف ضدّ المعارضين. والظاهرتان موجودتان بالفعل. ففي مجال التدخل الأجنبي يمكن الإشارة بسهولة إلى ما يفعله الأميركيون بالعراق وأفغانستان. وما يعملُهُ الروس في الشيشان. وما يعملُهُ الإسرائيليون بفلسطين. وما يعملُه الإثيوبيون في الصومال. وفي مجال استخدام السلطات للعنف يمكن أن نذكر ما يحصُلُ في أغلب البلدان ضدّ المعارضين في سياق الصراع على السلطة، وإنْ تحت شعاراتٍ دينية. لكنْ تعالوا نتأمَّل أحداث الأسبوعين الماضيين بهدوء. في غزة أغارت "حماس" على خصومها وعصفت بهم تاركةً عشرات القتلى ومئات الجرحى والمُصابين والهاربين. وقد جرى تصوير ذلك من جانب المشاركين باعتباره عقاباً دينياً لأُناسٍٍ ضالين أو متصهينين. وهذا بخلاف ما حاول القادةُ تلطيفَه بالقول إنهم إنما فعلوا ذلك ضدّ خصومٍ سياسيين أرادوا القضاء على "حماس" وسلطتها. وفي العراق نافس العُنف الدينيُّ بين السنة أنفُسِهِم، وبين السنة والشيعة، العنفَ الأميركيَّ ضد "المتمردين" ومن السنة والشيعة في سائر أنحاء العراق. وفي اليمن أغارت "القاعدة" على سياحٍ إسبان ببلدة مأرب التاريخية، وقتلت ثمانية أشخاص وجرحت آخرين بحجة مصارعة الكفّار. وفي لبنان تابع الجيش اللبناني عملياته ضد "فتح الإسلام" وزاد عددُ الضحايا والمُصابين. ونحن نعرفُ أنّ جهاتٍ خارجيةً لا علاقةَ لها بالإسلام نظّمت "فتح الإسلام" وسلّحتْها ودرّبتْها. لكنّ للأمر وجهاً آخر أو تفسيراً آخَرَ لدى أعضاء المنظمة أنفُسهم. فهؤلاء يقاتلون منذ خمسين يوماً، وقد فقدوا أكثر من مائتي رجل، وهم يعتبرون أنفسهم مُجاهدين، ولا يتصرفون كما يتصرف المرتزقة. وفي لندن أحبطت السلطات مؤامرةٍ للتعرض لأمن المطارات، وقبضت على عشرة أشخاصٍ كلهم مسلمون. وفي باكستان أخيراً اعتصم متشدّدون بالمسجد الأحمر مما اضطر السلطات لتطويقه ومحاولة اقتحامه. ومرةً أُخرى فإنّ السلطات الباكستانية ترد بقوة على خصومها السياسيين أو الدينيين. لكنّ أولئك الخصوم لا يعتبرون أنفُسَهم مقاتلين ضد الديكتاتورية أو من أجل الوصول للسلطة عبر الديمقراطية؛ بل إنهم يقولون بالجهاد ضد الضلالة والكفر. ونستطيع أن نمضي إلى ما لا نهاية في إيراد أحداثٍ وحوادث ظاهرُها عنفٌ خارجيٌّ أو سلطويٌّ ضد خصوم؛ وباطنُها انشقاقٌ دينيٌّ أو وجود شبان متشدّدين يعتقدون أنهم إنما يصارعون الكفر والطاغوت. وفي حالةٍ كحالة اليمن هناك أمران: أمر الحوثيين، وأمر "القاعدة". والسلطات هناك إنما تريد السَتر بالفعل. لكنْ حتى لو اعتبرنا الانشقاق الحوثي انشقاقاً زيدياً نتيجة ضغوطٍ ممتدةٍ لزمنٍ طويل؛ فإنّ هجمات "القاعدة" أو السلفية الجهادية لا مبرر ظاهراً لها من قمع السلطات! ذلك أنّ الحكومة اليمنية والرئيس علي عبدالله صالح، متحالفان منذ أكثر من عقدين مع السلفيين، وهؤلاء لا يتعرضون لأي ضغوط؛ بل ويشارك كثيرٌ منهم في السلطة في مراتب مختلفة. لكنْ رغم ذلك فإنّ "القاعدة" اعتبرت لسببٍ ما أنّ اليمن صارت "دار كُفر" ولذلك تتصل فيها وعليها الهجمات! إنّ المشكلة مَهولةٌ بالفعل. وهي مهولةٌ لأنها وقعت أو وقع الصَدْعُ في قلب الإسلام السنّي، وعدد المسلمين السنة في العالم أكثر من مليار وثلاثمائة مليون. وهم ليسوا موجودين في بلدان العالم الإسلامي الكبرى والصغرى فقط؛ بل ومنهم أكثر الجاليات وأكبرها في أوروبا والولايات المتحدة وأستراليا. فقبل أيام، كما سبق القول، أحبطت الشرطة البريطانية محاولةً للاعتداء على المطارات والمسافرين، وقبضت على عشرة بينهم ثلاثة أطباء؛ أردنيان وباكستاني! أمّا لماذا يريد هؤلاء المقيمون والممارسون للطب في بريطانيا، نسف القطارات أو المطارات، فلأنهم يعتبرون الدار التي يعيشون فيها دار كفرٍ وضلال! لماذا كان هذا الصدْع أو هذا الانشقاق، وكيف يمكن السيطرة عليه؟ الانشقاق فيما يبدو عميق الغَور، وليس ناجماً عن الفقر أو التخلّف، بل عن الإحساس بعدم الانتماء إلى هذا العالم. فالشبان المغاربةُ اندفعوا خارجين من بلادهم إلى إسبانيا، ونجحوا نسبياً فيها، لكنّ قلةً منهم انصرفت رغم ذلك لنسْف القطارات وللانتحار. وهكذا فإنّ هؤلاء يعتقدون أنّ هذا العالم لوَّثًَهم أو أنه ملوَّث ويريدون تطهيره بالتدمير؛ وهم عندما يفعلون ذلك يتطهرون لكنهم يموتون. فالانشقاق داخليّ بمعنيين، أي أنه داخل الجماعة أو الأمة وليس بينها وبين العالم، ثم إنه داخليٌّ بمعنى أنه بين المرء وذاتِه. هو داخل الجماعة لأنّ "المجاهد" يعتبر أنّ الأمة ضلّت عندما تلوثت بالتغريب؛ وهو يريد تطهيرها ولو بالقتل. لكنه في الحقيقة ما عاد يعتقد بطهارة نفسِه أو ذاته رغم أنه كارهٌ أو رافضٌ لهذا الواقع؛ ولذلك فهو ليس حزيناً عندما يسقط وهو يحاول تدمير قطارٍ أو طائرة. وإذا كان هذا الفهم صحيحاً، فمعنى ذلك أنّ الظاهرة عالمية، بقدْر انتشار المسلمين. وهذا يعني مزيداً من سوء العلاقة بين المسلمين والعالم الذي يكون من حقّه أن يخاف لأنه لا يستطيع أن يأمن مسلماً مهما كانت براءةُ مظهره. إذ كيف كان بوسع المرأة العجوز جارة الطبيب الأردني ربّ الأسرة، أن تتصور أن الرجل "المتحضّر" كما قالت، يمكن أن يكونَ إرهابياً! لكنْ ألا يُسهّل هذا التفسيرُ على الأميركيين غزو البلدان وقتل الناس للقضاء على هذا الوباء أو المرض؟ نعم ولا. نعم، لأنّ الأميركيين سبق أن قالوا في تعليل لماذا يحاربون، بأنهم إنما يفعلون ذلك دفاعاً عن أنفُسهم وعن الحضارة؛ إذ هؤلاء "إنما يقتلوننا لا لشيء إلاّ لأننا أميركيون"! والواقع أنّ الأميركيين ما قصّروا؛ فبالإضافة إلى مئات آلاف القتلى، لديهم معتقل غوانتانامو، ولديهم أبو غريب، ولديهم بلدانٌ إسلاميةٌ عديدةٌ يحتجزون متهمين بالإرهاب على أراضيها حتى لا تسري عليهم القوانين الأميركية. أمّا الخروج من هذا المأزق فليس سهلاً. فهؤلاء الشبان اللامنتمون، أو المنتمون بشدَّة، لا يأبهون للموت، سواءٌ وقع عليهم أو وقعوا عليه. فالشبان الجزائريون الثلاثة والذين تقررَ لهم أن يفجروا مركزاً حكومياً بأحزمة ناسفة وعلى مدى ساعة ونصف الساعة، تردد ثالثُهم عندما رأى تجمع الناس الكثيف، بمعنى أنّ عدداً كبيراً من القتلى سيقع إذا فجرَّ نفسه وسط الجمع. هذا الشاب ما عاد من حيث أتى، بل مضى بعيداً إلى آخر الساحة حيث لا أحد وفجَّر حزامه! وهذا يعني أنه أشفق على الناس؛ لكنه لم يُشفق على نفسِه! هذه الظاهرة ليست جديدة؛ لكنها نادرةٌ على أي حال. فقد عرفها الفوضويون في القرن التاسع عشر، والمقاتلون من الجيش الأحمر الياباني، واليساريون الألمان. بيد أنّ الأقرب للتشبيه هنا التوّابون. وهؤلاء جماعةٌ بالكوفة ندمت لأنها لم تقاتل مع الحسين بن علي فكفّرت عن ذنبها بالخروج للمواجهة ضد والي الأمويين بجيشٍ ضعيفٍ، وفنوا عن آخرهم، وهذا ما كانوا يريدونه! كنتُ قد ذكرتُ في إحدى مقالاتي كتاب الإيراني جلال آل أحمد: "الإصابة بالغرب"، والذي أراه أنّ الإصابة بالغرب مستمرة لدى فئة. لكنْ هناك اليوم من هو مُصابٌ بالأصولية. ولستُ أدري أيَّ الأمرين أسوأ. وقلتُ لوالدي رحمه الله بعد وصف مصيبة: وماذا تفعل أنت يا أبي؟ فقال إنه لا يدري ما سيفعل، لكنه يعرفُ تماماً أنه لن يسفك دماً مهما كلَّف الأمر، ألم تسمع قوله تعالى: "لئن بسطت إلىّ يدك لتقتلني ما أنا بباسطٍ يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين". تنتظرنا إذن سنواتٌ عجافٌ ما دام لدينا شبان يريدون الموت أو يهجمون عليه، بدلاً من التعلُّم والبحث عن فُرص عمل! لكنْ من جهةٍ أُخرى، ليس كل الذين يقاتلون الأميركيين هم من الانشقاقيين أو من الإرهابيين. بل عندنا مرضان وليس مرضاً واحداً: مرض الأصولية، ومرض الهيمنة. والتخلص من الهيمنة سيُضعفُ الأصولية ولا شك، لكنّ اختفاء الأصوليين نهائياً لن يحصل في المدى القريب. لدينا انشقاق يوشك أن يكونَ بمثابة الصدع الجيولوجي. وهو عميقٌ، لكنّ رجالات الصدع قلّة، وقد يمكن إقناعُ هؤلاء؛ ولذلك فقد اهتمّ كثيرون بمحاولة التمييز بين الأصولي وغيره.