تقف أميركا في مفترق طرق حقيقي وتجد نفسها في مكان لم تعهده من قبل يختلف تماماً عن تجاربها السابقة، حيث باتت المصالح الخاصة أكثر تجدراً ورجعية من السابق، كما توغلت البيروقراطيات وتمددت. لذا فنحن بحاجة اليوم لاستنهاض هممنا من أجل التغيير، لكن قبل ذلك تتعين علينا الإحاطة بما يتعين تغييره. وأشير في هذا السياق إلى كتابين تسترشد بهما أفكاري حول التغيير الضروري في أميركا. الكتاب الأول "شهادة: فرنسا في القرن الحادي والعشرين" لمؤلفه الرئيس الفرنسي الجديد "نيكولا ساركوزي"، أما الثاني فهو أميركي ويحمل عنوان "الرجل المنسي: تاريخ جديد للكساد الاقتصادي الكبير" لمؤلفته "أميتي شليز". والكتابان معا يحددان خريطة واضحة لمفترق الطرق الذي تقف فيه أميركا خلال اللحظة الراهنة. ولو بدأنا بالرغبة في إقرار التغيير سنكتشف أن معظم الأميركيين فقدوا تلك الرغبة واستكانوا للواضع القائم، وحتى إذا ما توافرت الرغبة في التغيير، فإنهم غالباً ما تعوزهم الإرادة القوية التي تدفعهم للتحرك والبدء في العمل. فبرغم أن فرنسا اكتسبت سمعة النفور من التغيير والاكتفاء بما هو قائم من أوضاع، فإن الرئيس "ساركوزي" استطاع ترجمة مناشداته للفرنسيين بضرورة التغيير وأهمية الإنتاج والعمل أكثر إلى مقترح بسيط: ستُعفى جميع الساعات الإضافية للعمل في فرنسا من الضرائب. وقد استطاع "ساركوزي" التحلي بالشجاعة الكافية لبناء حملته الانتخابية على "ضرورة العمل بجد أكثر"، فتتخيلوا وقع هذا الاقتراح مثلاً على مستشار في حملة انتخابية أميركية، لا شك أنه سيتملكه الخوف من ردة فعل الرأي العام، ولن يقدم على التغيير. لكن "ساركوزي" رفض تحمس "اليسار" ودعوته إلى فرض المزيد من الضرائب على الدخل وقرر في المقابل تخفيف الضرائب. وبالطبع انتقدت النخبة السياسية رفضه لمطالب "اليسار"، والانصياع لميلهم التقليدي إلى ما يسمونه إعادة توزيع الثروة، حيث نجح "ساركوزي" في الترويج لأفكاره الداعية إلى التغيير وهكذا فاز في الانتخابات الرئاسية. ويثبت هذا النجاح الذي حققه "ساركوزي" في بلد يولي أهمية خاصة لمصالح الدولة ويحيطها بالرعاية أن التغيير ممكن مهما كانت العقبات. لكن ماذا عن الجزء الثاني من التحدي والمتعلق بالأمور التي سيطالها التغيير بعد الإقرار بضرورته والتسليم بالحاجة الماسة إليه؟ ولعل ما يتبادر إلى الذهن في هذا السياق هو استحالة إجراء تغيير حقيقي وحل المشاكل الحالية التي تعيشها أميركا في ظل البيروقراطيات الفاشلة والرجعية، وفي ظل السياسات اليسارية المنادية بإعادة توزيع الثروة. وقد تعرض "الجمهوريون" للعقاب في انتخابات التجديد النصفي للكونجرس في نوفمبر 2006 لفشلهم في إدارة النظام بفعالية، كما تعرضوا لانتكاسة بسبب عجزهم عن تطوير نظام جديد شبيه بما قام به الرئيس "ساركوزي" عندما أحدث خلخلة في النظام القديم، بينما فشلوا هم في وضع أصابعهم على مكامن الخلل والتحرك لمعالجتها. وفي هذا الإطار كان يتعين على المواطنين الاختيار بين "اليسار" الذي يدعو إلى رفع الضرائب لإدارة نفس البيروقراطيات الفاشلة وبين "يمين" يسعى إلى تفادي الضرائب ما أمكن بينما تواصل البيروقراطيات ترهلها في المجتمع. بيد أن هناك بديل آخر أفضل من الخيارات المطروحة يحظى بتأييد شعبي واسع وفي الوقت نفسه يضمن الفعالية الاقتصادية، يتمثل في العودة إلى الليبرالية القديمة التي كان لها حضور قوي في أميركا قبل "الخطة الجديدة". وهي الليبرالية التي نتقاسمها مع بريطانيا ويتبناها حزب "المحافظين" باعتمادهم على اقتصاد السوق الحرة. ويقودنا الحديث عن الليبرالية القديمة إلى عبارة "الرجل المنسي" التي صكها لأول مرة أستاذ الاقتصاد المخضرم والمحافظ المدافع عن اقتصاد السوق البروفيسور "ويليام جراهام سامنر". ففي إحدى مقالاته المنشورة عام 1883 كتب الخبير الاقتصادي "ما أن يرى شخص (أ) أمراً يبدو له غير صحيح يعاني من تبعاته شخص (س) حتى يكلم (أ) الشخص (ب) عن الموضوع ويقترح الاثنان تشريع قانون لتصويب الخطأ الذي يعاني منه (س). هذا القانون الذي دائماً ما يحدد ما يتعين القيام به من قبل (أ) و(ب) و(ج) لمساعدة (س)". لكن "سامنر" ركز انتباهه على الشخص (ج) الذي خصه بوصف "الرجل المنسي"، فكما تقول "شليز" في كتابها موضحة الفكرة "ليس هناك من مشكلة في إقدام (أ) و(ب) على مساعدة (س)، لكن الخطأ يمكن في تشريع القانون وإلزام (س)، الرجل المنسي، بالقضية". وقد كتب "سامنر" عن الرجل المنسي قائلاً "إنه يعمل، وينتخب، ويصلي عادة-لكنه دائما يدفع المال- أجل إنه بالأخص يدفع المال". وعلى غرار "ساركوزي" اليوم أراد "سامنر" تركيز سياسات المجتمع على تحفيز الإنتاج وتشجيع الأفراد على العمل أكثر لأنه أدرك أن عقداً اجتماعياً يُعلي من قيمة العمل سيقود حتماً إلى مستقبل زاهر. لكن معنى "الرجل المنسي" الذي يدفع المال دائماً كما أشار إلى ذلك الخبير الاقتصادي "سامنر" عام 1883 تغير مع مرور الزمن. فقد قام الرئيس "فرانكلين روزفيلت" بشراء أصوات الناخبين في عامي 1935 و1936 من خلال إنفاق الملايين من الدولارات على المشروعات المنتجة للوظائف، وكان 1936 أول عام في زمن السلم تصبح فيه الحكومة الفيدرالية في أميركا أكبر من الحكومات المحلية ومن الولايات. ومع أن الكساد الاقتصادي كان حقيقياً، إلا أنه أصبح ذريعة لتمدد الحكومة واتساع نفوذها. ومن خلال تركيز "روزفيلت" على الجماعة ظهر "رجل منسي" آخر تمثل في الفرد الذي أصبح خارج دائرة الإنتاج حتى ولو أحيط بشفة توزيع الثروة. لذا يأتي "ساركوزي" ليثبت لنا كيف أنه رجل شجاع قادر على العودة مجدداً إلى الليبرالية من خلال واحدة من أهم الحملات الانتخابية في حياتنا المعاصرة. نيوت جينجريتش ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ باحث بارز في معهد "أميركان إنتربرايز" والرئيس السابق لمجلس النواب الأميركي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز واشنطن بوست"