في أول خطاب له أمام مجلس العموم، تقدم رئيس الوزراء البريطاني الجديد "جوردن براون" بمشاريع قوانين تحد من سلطته بقدر ستة عشر سلطة يتمتع بها رئيس الوزراء البريطاني، ويحول القانون هذه السلطات للبرلمان، أي أن رئيس الوزراء يتنازل عن بعض سلطاته في وقت تعيش بلاده حالة استنفار أمني بسبب مخطط إرهابي كبير. كان المتوقع أن يطالب السيد براون بمزيد من الصلاحيات ولو على حساب الحريات العامة والخاصة تحت ذريعة التصدي للإرهاب؛ فلا صوت يعلو فوق صوت المعركة، لكنه لم يفعل، فأقدم على التنازل عن السلطة أو بعضها. والحق أن التاريخ يحوي أمثلة ممن تنازلوا عن السلطة بشكل طوعي لأسباب مختلفة. كان أولهم في تاريخنا الحسن بن علي الذي تنازل عن الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان حقناً للدماء بعد مقتل أبيه علي بن أبي طالب. وعض بنو أمية بالنواجذ على الخلافة، لكن التاريخ يذكر لنا أن بينهم استثناءات في التخلي عن السلطة، فحفيد معاوية بن أبي سفيان -معاوية بن يزيد (معاوية الثاني)- تنازل عن الخلافة بعد أيام قليلة قيل إنها لم تتجاوز العشرين يوماً. فقد وقف أمام الناس وخطب فيهم قائلاً: "لا أحب أن ألقى الله عز وجل بتبعاتكم، فشأنكم وأمركم ولوه من شئتم"، ثم أغلق على نفسه حتى مات بالطاعون سنة 64 هجرية. والحق أنه قدم نموذجاً للتنازل عن السلطة خوفاً من أن يظلم الناس. وفي تاريخنا المعاصر، أعلن عبدالناصر استقالته بعيد النكسة عام 1967م، لكن الجماهير –هداها الله- خرجت بالملايين مطالبة إياه بعدم التخلي عن السلطة برسائل مكتوبة بالدم. فما كان من الزعيم الراحل سوى الخضوع لرغبة الجماهير، والعودة مجدداً لتحمل مسؤولية السلطة. وشأنه في ذلك الرئيس اليمني الحالي علي عبدالله صالح الذي أعلن أنه لن يخوض انتخابات رئاسة الجمهورية اليمنية بعد أن حكمها ثلاثين سنة، ولكن الجماهير -سامحها الله أيضاً- خرجت في طول البلاد وعرضها مطالبة الرئيس صالح بعدم التقاعد وخوض انتخابات الرئاسة مرة أخرى، وهو ما كان، وفاز الرئيس وعاد إلى السلطة مجبراً بضغط الجماهير. وفي السودان، قدم سوار الذهب إنجازاً نادراً لعسكر العالم الثالث، حيث استولى على السلطة في السودان واعداً الجماهير بالتخلي عنها وإعادتها إلى الشعب عبر انتخابات حرة، وهو ما تم بالفعل. وتكرر نموذج سوار الذهب التاريخي في موريتانيا قبل أسابيع، حين سلم القائد العسكري للانقلاب على الرئيس الذي أتى بانقلاب أيضاً، السلطة للشعب الموريتاني الذي تقوده الآن سلطة منتخبة انتخاباً حراً مباشراً. أما في ليبيا، فإن الأخ العقيد معمر القذافي لا يملك أية سلطة كي يتخلى عنها. فالأخ العقيد يكرر في كل مقابلاته الإعلامية أنه ليس رئيس دولة ولا يتمتع بصلاحيات تفوق صلاحيات اللجان الشعبية التي تسوس البلاد وتحكمها. وأن السلطة قد تم التنازل عنها منذ عقود للشعب من خلال هذه اللجان، بحيث تحول القذافي إلى مواطن ليبي عادي لا يملك من الصلاحيات أكثر من أي مواطن ليبي آخر. وبذا قدم الأخ العقيد نموذجاً لم يحدث في تاريخ البشرية، ولا أعتقد أنه سيتكرر في القادم من العصور والدهور، وهو تنازل عن السلطة برمتها لا يبدو للآخرين كذلك، ولم يستطع أحد أن يستوعب هذه التجربة الفريدة في الحكم والسلطة. فالعالم كله يظن "واهماً" أن القذافي يحكم ليبيا، بينما يقول الأخ العقيد إنه لا يملك من السلطة شيئاً. يسجل التاريخ نماذج التنازل عن السلطة، لأنها النادرة، بينما السائد في تاريخ البشرية هو الحكم العقيم العضوض.