تبدأ المهلة الدستورية لانتخاب رئيس الجمهورية اللبنانية في الثاني والعشرين من سبتمبر القادم، وتنتهي في الثاني والعشرين من نوفمبر المقبل. في الأيام العادية كان هذا الاستحقاق ذا طابع استثنائي، نظراً لما يمثله موقع الرئاسة في النظام اللبناني الفريد بين أنظمة المنطقة بخصوصيته، أي بتنوعه الطائفي وتوازناته ومعاييره وقواعد اللعبة السياسية ومصالح الطوائف والمذاهب الـ18، وتوزيع المواقع والمراكز السياسية والإدارية بينها في الرئاسات والوزارات والإدارات على الأقل في الفئة الأولى، وعلى الأبعد في كل الجوانب والمؤسسات، لتأكيد الحرص على الوفاق الوطني ومقتضياته. وبالتالي ثمة دستور واضح، وثمة أعراف واضحة متوارثة تتقدم على الدستور وبعض بنوده في أمور محددة لتأكيد العنوان ذاته: مقتضيات الوفاق الوطني. إذاً استحقاق انتخابات الرئاسة كان دائماً ذا طابع استثنائي في الأيام العادية، وأكثر استثنائية في الأيام الاستثنائية. فكيف اليوم والمرحلة هي الأكثر استثنائية ودقة في ظروف البلد بعد اتفاق الطائف (وما سبقه)، وبعد خروج القوات السورية من لبنان وإنهاء تفويضها بإدارة الشأن اللبناني على مدى سنوات طويلة، وأمام تحولات إقليمية خطيرة، قد تطيح بدور لبنان وتغيـّر وجهه وتضرب تنوعه.! وما يجعل الاستحقاق الرئاسي هذه المرة استثنائياً ومهماً في مستقبل البلد ويتجاوز شخص الرئيس، هو الخوف من عدم حصوله. حصول الانتخابات الرئاسية بحد ذاته إنجاز اليوم. للأسف هذا هو واقع الحال، لأن عدم حصولها يعني دخول البلد في فراغ هائل، وترجمة لقرار بذلك. فلن تكون صدفة. ولن يكون الفراغ نتاج إهمال أو سوء تدبير... لا . في مثل هذه الحالة من الفراغ، يأتي عن سابق تصور وتصميم وتقرير، وهذا يعني دخول البلد في المجهول- المعلوم- وفي فوضى خطيرة عامة، في معزل عن الاجتهادات والتفسيرات والتأويلات الدستورية والخلافات حولها. ولذلك يتقدم بند إجراء الانتخابات الرئاسية في موعدها على أي أمر آخر، هذا ما يهم "بكركي" والطائفة المسيحية عموماً والمارونية خصوصاً. وهذا ما يهم فريقاً كبيراً من اللبنانيين، وهذا ما تتابعه وتسعى إليه دول كثيرة، كبيرة وصغيرة صديقة أو شقيقة معنية بهذا القدر أو ذاك بما يجري في لبنان. وقبل الدخول في مناقشة أو مقاربة بعض العوامل المتعلقة بهذا الاستحقاق الاستثنائي، ومع تسجيل الاحترام والتقدير لكل المرشحين الذين يرون في أنفسهم الخيار الأنسب لهذا الموقع المهم، فإن إحدى العقبات تكمن في عدم وجود رجال استثنائيين لشغل هذا الموقع. وامتداداً لم يعد ثمة استثنائيون في مواقع أخرى. لقد طحنت الحرب كل شيء وأخذت كل الاستثنائيين وجاء مسلسل الاغتيال والإرهاب الأخير ليكمل ما لم يتحقق في الحرب على هذا الصعيد. في كل الأحوال نحن أمام استحقاق مهم جداً قد، بل يجب أن يشكل مدخلاً إلى حل للأزمة المستفحلة. في الأشهر السابقة كان الشعار حكومة اتحاد وطني. لم يتحقق. البعض حصر مسألة الحكومة بالعدد. أي بأن يكون للمعارضة فيها ثلث معطل. وهذا لم تقبله الموالاة أو الأكثرية التي تعامل بعضها مع هذا الشعار بتردد وخجل وأحياناً بخطأ. فغرق أيضاً في الأوهام أو في لعبة الأرقام. في النهاية لم تتحقق فكرة حكومة الاتحاد الوطني أو حكومة الوفاق الوطني. وفشلت كل الوساطات والمبادرات الداخلية والخارجية في ذلك بسبب تشنجات ومواقف ومبادرات وقرارات داخلية وخارجية أيضاً. آخر تلك المحاولات ما قام به أمين عام الجامعة العربية السيد عمرو موسى والوفد الوزاري العربي، الذي رافقه إلى بيروت مفوضاً بمهمة محددة من مجلس وزارء الخارجية العرب الذي اتخذ قراره بالإجماع. في التفويض وبنود المهمة ليس ثمة حديث مباشر عن حكومة جديدة، ومع ذلك سعى الأمين العام بكل جهد وجدية للدخول في هذا الأمر والعبور منه إلى الاستحقاق الآخر، أي استحقاق الرئاسة. ناقش فكرة حكومة اتحاد وطني أو حكومة وفاق وطني، وتهيئة الأجواء لتأمين الانتخابات الرئاسية، ووافقت الأكثرية على ذلك. وافقت على ثلث معطل فعلياً للمعارضة. فكان ذلك مفاجأة. وقالت المعارضة: "لن نقع في هذه العملية. يريدون إعطاءنا حكومة لمدة 3 أشهر ليأخذوا رئيساً لست سنوات"! يومها قلت وأكرر القول المنطلق من قناعة راسخة: إن الحكومة لا تعطى للمعارضة. وهي ليست لها. الحكومة هي لكل لبنان. وتشاء الصدف أن يكون عمر الحكومة المقترحة قصيراً لأن ثمة دستوراً يحكم الجميع. أي عندما يتم انتخاب رئيس جديد، الحكومة طبعاً ستستقيل وسيتم تشكيل حكومة جديدة. هذا هو الواقع وهذا هو الدستور. إضافة إلى ذلك، الحكومة ليست لمعارضة حتى لو فرضتها، ولا لأكثرية حتى ولو اختارها الناس ديمقراطياً. والحكومة، أية حكومة هي لكل لبنان، ولكل اللبنانيين. هذا إذا كنا فعلاً نفكر لبنانياً وفي مصلحة لبنان واللبنانيين. وينطبق الأمر على الرئيس والرئاسة. رئاسة الجمهورية ليست لفريق. هكذا يقول الدستور، وهكذا يجب أن تكون، وهكذا هي خصوصية لبنان بتنوعه وتوازناته التي أشرنا إليها. وإذا ما تم إتفاق على رئيس، فإن مدة ولايته هي ست سنوات وبالتالي لا تعطى الأكثرية رئيساً لمدة ست سنوات. إنه رئيس لكل لبنان ولكل اللبنانيين. ومثل هذه المعادلات خاطئة. المسؤول في لبنان هو مسؤول عن كل اللبنانيين. ويجب أن يكون لهم مهما كان موقعه ولونه الطائفي أو الحزبي. ليس هذا الكلام رومانسياً، إنما هو من موقع التجربة والمعاناة. فأي تصرف غير ذلك يؤذي البلد، وينعكس سلباً على أصحابه قبل أن ينعكس على الآخرين. على هذا الأساس. أقول أمامنا استحقاق فرصة. فلنستفد من الفرصة ولنكن على مستوى الاستحقاق، ولننجح في الامتحان ولنعبر بلبنان من بلد القلق والمخاوف والهواجس والاحتمالات الخطيرة إلى بلد الأمان والاستقرار والتنوع والسلامة. نعم، أمامنا فرصة لنتفق على الرئاسة، ولنتحاور حول القضايا السياسية الشائكة. فنتفق على رئيس وعلى القضايا الأساسية على الأقل التي توافقت حولها على طاولة الحوار والعناوين الرئيسية التي أعلنت القوى السياسية التزاماً بها، فنكون بذلك نؤسس لحكم الوفاق الوطني الذي لا بد دستورياً من تشكيل حكومة بعد قيامه، فتكون حكومة الوفاق الوطني هي أيضاً، وننطلق معاً الى إعادة بناء الثقة بين اللبنانيين، وثقة اللبنانيين بوطنهم ونعيد ثقة الخارج بالبلد. حق للبنانيين علينا اختصار الوقت والكلفة وإنجاز الاتفاق. وحق للبنان علينا إنقاذه من الاحتمالات الخطيرة التي قد تطيح بكل شيء. ومن الآن أقول الحق على من يفكر في تعطيل انتخابات الرئاسة خصوصاً انتخابات حكم الوفاق الوطني وولادة حكومة الوفاق الوطني بعده. !