ماذا، ونحن نشاهد اليوم ما بين غزّة والعراق، لو راجعنا العناصر التي دار حولها وعينا السياسيّ إبّان نصف القرن المنصرم، أو بالأحرى جذور تلك العناصر والأسباب الخفيّة لصعودها في أفكارنا وسلوكنا. فلنأخذ، مثلاً، الإسلام السياسيّ الذي كثيراً ما استُخدم رايةً للتوحيد، ولنرَ كيف سار ذلك يداً بيد مع أقصى التفتيت، وكيف أن الشعارات التوحيديّة عموماً أخفت وتخفي ميولاً انشقاقيّة عميقة: فهناك، كما نعرف جميعاً، إسلام شعبيّ، شفويّ الثقافة مخلوط بعادات وتقاليد أقدم من ولادة الدين العربيّ نفسه. وهناك إسلام مدينيّ ومتعلّم. كذلك هناك إسلام السنّة وإسلام الشيعة، فضلاً عن فرق كثيرة ممن لا يتوقّف النقاش حول إسلامهم ودرجته. ثم حينما نتحدّث عن مذاهب المسلمين نكون نتحدّث أيضاً عن مواقع اجتماعيّة مختلفة وعن ثقافات فرعيّة متباينة تتميّز بها المذاهب تلك. وهذا كلّه معطوف على أن اشتقاق السياسة من الدين وردّها إليه، إنما يضع أعداداً من غير المسلمين خارج السياسة والشأن العام، ويحيلهم عمليّاً إلى رعايا أو مواطنين من درجة ثانية. ولنأخذ القوميّة العربيّة أيضاً: فهي ظهرت أواخر القرن التاسع عشر في جبل لبنان بين المثقّفين المسيحيّين والعلمانيّين، فكان غرضها الأوّل إبعاد الإسلام عن صدر الحياة العامّة. ثم في الأربعينيات والخمسينيات، مع توسّع الإدارات الاستقلاليّة والجيوش، استقطبت القوميّة العربيّة أبناء الأقليّات المسلمة المتذمّرة من حكم السنّة. وفقط مع جمال عبد الناصر، منذ أواخر الخمسينات، بدأت الدعوة إليها تجذب الجسم السنّي العريض، وهو ما أخاف مسيحيّي لبنان وشيعة العراق فانكفأوا عنها. واستطراداً، هل كانت الدعوة إلى الوحدة العربيّة نفسها دعوة توحيديّة؟ وعلى العموم فإن الإصرار على الوحدة لم يعد حاضراً في برامج الحكومات، ولا حتّى التنظيمات والمنظّمات، وهو ما باشر تراجعه البطيء والمديد منذ 1961 حين انهارت الوحدة المصريّة-السوريّة بعد ثلاث سنوات على قيامها، وكانت أوّل وآخر وحدة في التاريخ العربيّ المعاصر. مع ذلك، فحين أقدم صدّام حسين على ضم الكويت عام 1990، هبّت الأكثريّات الكبرى في العالم العربيّ تؤيّد ما فعله وتكرّر أقواله في ما خص "إعادة الفرع إلى الأصل". وكانت هذه بالطبع، إشارة خطيرة إلى أن وحشاً مرعباً يقيم في الوعي الجماهيريّ العربيّ، لكنّها، كذلك، كانت برهاناً عمليّاً للطاقة التفتيتيّة التي يملكها التفعيل الوحدويّ للقوميّة العربيّة. وهناك الراديكاليّة في مقاومة إسرائيل التي راحت تتعاظم منذ قيام الدولة العبريّة عام 1948. فهذا الحدث لم يشكّل مجرّد هزيمة عسكريّة وسياسيّة، بل مثّل أيضاً جرحاً قويّاً تصاب به النرجسيّة العربيّة، فيما هي تداري شعورها بالدونيّة تجاه "الغرب" عبر التظاهر بالتفوّق عليه. لكن إسرائيل طرحت تحديات عدّة ربما كان أهمّها، في ما يعنينا هنا، مزيد من إضعاف فرص تحوّل المشرق من جماعات إلى شعوب، وهي فرص ضعيفة أصلاً. فبسبب العسكرة والتوتّر ارتفعت نسبة الأدلجة في الحياة العربيّة، علماً بأن الشرط المسبق الأساسيّ لإحداث التحول المذكور هو حصول استقرار سياسيّ وعسكريّ ونفسيّ يحصل فيه خفضٌ لأدلجة الحياة العامّة، أو نزع لها. وفي هذه الأثناء هُزم الراديكاليون عام 1967 على يد الدولة العبريّة بعد أقل من عشرين سنة على هزيمة المحافظين أمامها. وهذه أيضاً لم تكن مجرد خسارة عسكرية، بل دشّنت تطوّرات أربعة أخرى شديدة الأهمية: فأولاً، بدأ انحدار القومية العربية من مشروع للتغيير، بغض النظر عن مدى فقره وتهافته، إلى أنظمة قمعية بلا مشروع، يشكّل التشبث بالسلطة آخر ما تبقّى من مضمون لها. في هذا الإطار يمكن النظر إلى عودة "البعث" عام 1968 للإمساك بالسلطة في العراق، ووفاة عبد الناصر عام 1970 قبل أشهر من استيلاء حافظ الأسد على السلطة في سوريا، والتي لم يغادرها حتى وفاته عام 2000. ثانياً، صعدت الروابط والولاءات الصغرى إلى العلن بعدما قمعها التحديث الذي مارسته الدولة القوميّة في الحقبة الناصريّة. ظهرت بدايات ذلك مع حرب 1970 في الأردن بين الفلسطينيّين-الأردنيّين والشرق أردنيّين، ثم وجدت تتويجها في حرب لبنان التي اندلعت عام 1975 بين الفلسطينيّين والمسلمين اللبنانيّين من جهة والمسيحيّين اللبنانيّين من جهة أخرى. ثالثاً، باشر الإسلام السياسيّ عودته إلى الحلبة انطلاقاً من مصر. فالتذاكي الذي مارسه أنور السادات، وكذلك عواطفه الأيديولوجية المحافظة، جعلته يراهن على دعم "الإخوان المسلمين" الذين قمعهم عبد الناصر، للوقوف في وجه اليسار والناصريّين. ورابعاً، أرسيت أسس الخروج المصري من المعركة مع إسرائيل. تجسّد هذا في سياسة الحرب الصغيرة للوصول إلى السلم الكبير، وهو ما تم في حرب أكتوبر 1973 التي تلتها رحلة السادات إلى القدس أواخر 1977، ومن ثم معاهدة كمب ديفيد. ولما كانت المنطقة والحرب مترادفتين، بدا الخروج المصريّ من الحرب كأنه خروج من المنطقة. في هذه الغضون ظهر من يرى أن التعويض توفّره الثورة الفلسطينيّة. فـ"أنظمة البورجوازيّة الصغيرة"، حسب ما قالت الشلل اليساريّة، "سقطت" وانفتح الباب لطرف أكثر راديكاليّة. وفي الأحوال كافة صارت القضيّة في يد الشعب الفلسطينيّ الذي قيل إن العرب سيتوحّدون حوله وحول نضاله، بعدما كانت هذه القضيّة في أيدي الحكومات العربيّة. لكنْ هنا أيضاً كانت الحماسة أقوى من العقل. فالثورة تنطلق من بلدان محيطة بإسرائيل قبل أن تصل إلى هدفها، وهذا يعني أنها ستصطدم بـ"الإخوة" قبل أن تصطدم بـ"الأعداء". ثم إن قيادتها كانت مجموعة من المهندسين والمقاولين الذين يعملون في الخليج ويحملون وعياً غائماً يتشكّل من وطنيّة فلسطينيّة بريئة وولاء إسلامي عام. وهو ما كان يعني حكماً حالة متناقضة جداً: من جهة، صدام بعدد لا حصر له من المشاعر الدينيّة أو الإثنيّة أو الوطنيّة في الأردن ولبنان، ومن جهة أخرى، الالتحام بالأنظمة العربية كلّها: فالبلدان الغنية كالسعودية والكويت توفّر لها المال، والبلدان الراديكاليّة، خصوصاً سوريا والعراق بالتناوب، تؤمّن لها حماية وجودها في البلدان الأصغر كالأردن ولبنان. وجميع هذه العناصر التي تُضعف الطبيعة الثوريّة المفترضة للثورة الفلسطينيّة تحوّلت إلى وزن ثقيل جدّاً يكبحها ويشلّ قدرتها على الحركة أو على إنتاج قيم تتجاوز الصراع مع "العدوّ الصهيوني". وأبعد من هذا أن روح الثورة الفلسطينيّة وثقافتها نهضتا على مخيّمات اللجوء بوصفها وحدات تجمع بين القهر والتعاسة وبين الانفصال عن كل دورة اقتصاديّة أو مجتمعيّة. هكذا انتهت هذه الظاهرة ظاهرة ضدّيّة أخرى، قويّة عسكريّاً وهامشيّة على سائر المستويات غير العسكريّة. وتلاحقت الامتحانات القاسية التي تعرضت لها الثورة تلك من حرب الأردن إلى حرب لبنان وصولاً إلى الاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1982 والذي أخرج المقاومة منها إلى تونس. لكن تحرير الكويت من صدّام حسين خلق الظروف الملائمة لمؤتمر مدريد 1991، وبعده عُقدت اتفاقية أوسلو 1993، ونشأت السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة التي تكشّفت عن خيبة أمل للجميع: فالراديكاليّون أزعجهم أن القضية الكبرى انتهت إلى سلطة مجتزئة على رقعة صغيرة من فلسطين التاريخيّة، والأكثر نزاهة استاءوا من الفساد المتفشّي برعاية ياسر عرفات نفسه، وبعض السكّان المحليّين لم يتحمّلوا حكم الآتين من تونس الذين سمّوهم "التوانسة"، فيما كانت إسرائيل تمارس سياسة تضييق وعنجهية يصعب احتمالها. وفي النهاية، انهارت أوسلو وكانت الانتفاضة الثانية والعمليات الانتحاريّة التي صارت، بعد 11 سبتمبر 2001، تندرج في خانة الإرهاب العالميّ. وأخطر من هذا أن المشروع الوطنيّ الفلسطينيّ بدأ ينحسر لصالح مشروع إسلاميّ رعته حركة "حماس"، وهي وراثة كانت ابتدأت مع صعود الجهاد الأفغانيّ، ومعه التركيز على سائر قضايا المسلمين في الشيشان وكشمير وغيرهما على حساب الاهتمام الأحاديّ السابق بالموضوع الفلسطينيّ. وقد جاءت وفاة ياسر عرفات، بعد محاصرة الإسرائيليين له وإذلاله، لتعلن تعليق كلّ شيء وفتح المستقبل الفلسطينيّ على المجهول الذي ما لبث أن انفجر على الشكل الذي رأينا في غزّة. إنها محاور وعي وسلوك لا تستحقّ إلا النعي، والمغادرة بأسرع وقت ممكن!