لم يعد الوطن العربي قادراً على حماية سمائه والدفاع عن أرضه. تفعل فيه القوى الأجنبية وحلفاؤها ما يشاؤون وكأنه وطن بلا صاحب، جسم مخدر يفعل فيه الأجنبي ما يشاء بالتقطيع والترقيع ونقل الأعضاء، بمساعدة الممرضين المحليين لخلق جسد جديد، فاقد الهوية، عاجز عن الحركة. تقوم القوى الأجنبية، بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، بالغزو المباشر للعراق وأفغانستان، وتقبض على الزعماء السياسيين بالغزو المباشر أو بالمحاكمة غير العادلة، وبإعدام رموز البلاد الذين كانوا هم أيضاً يعتبِرون وطنهم أرضاً بلا صاحب، ملكية خاصة لهم، وفعلت بمعظم البقية الباقية ما فعلت حتى أصبحوا يأتمرون بأمرها وينتهون بنهيها. إسرائيل من جانبها تقتل من تشاء، وتدمر ما تريد. سماوات لبنان وفلسطين وسوريا مفتوحة لها دون قيد، وأراضيها تجول وتصول فيها مدرعات العدو كما تشاء. وفي المقابل، تفعل المقاومة الشعبية ما تستطيع وما يقع في حدود قدرتها، في العراق وأفغانستان وفلسطين ولبنان، لتبين أن الأوطان لها صاحب، وهو الشعوب القاطنة فيها بعد أن أنكرتها القوى الكبرى من الخارج، واستعبدتها نظم الحكم في الداخل. الأولى بالغزو العسكري المباشر، والثانية بقوات الأمن والشرطة، والجيش إن لزم الأمر، ضد المعارضة السياسية، القلب الذي مازال ينبض بالحياة. الأولى لنهب ثروات الأوطان. والثانية لاحتكار المال والسلطة والحريات العامة. تجتمع السلطة السياسية والثروة الاقتصادية بأيدي الحزب الحاكم المسيطر على جميع مظاهر الحياة المدنية، فيزور الانتخابات، ويستأثر بالسلطة، ويدافع عن مكاسبه ومصالحه الخاصة في الحكم والبقاء في السلطة إلى الأبد. كما تفرض القوى الأجنبية إرادتها على الأوطان، باسم الأمم المتحدة وقراراتها، كما يحدث في السودان من فرض لقوات الأمم المتحدة بذريعة الأحداث الداخلية في دارفور. الفلسطينيون يمثلون الصورة الأكثر قسوة عن دارفور، بل هم دارفور الأولى ومنذ نصف قرن، قد تم نزعهم خارج وطنهم، وجرى تشريد أكثر من نصفهم، نزوحهم إلى الخارج، عاشوا عالقين داخل المخيمات في دول الجوار أو في بلاد الله الأخرى. ومن بقي منهم في الداخل، يعيش كمواطن من الدرجة الثانية تحت الاحتلال. الإدارة الدولية تفرض إرادتها على لبنان تحت ذريعة المحاكمة الدولية، وكأن ذلك ليس طعناً في القضاء الوطني، ودون فرض إرادة مماثلة على إسرائيل وهي التي قتلت مئات من قادة المقاومة الفلسطينية جهاراً نهاراً وزعمائها السياسيين المدنيين. تدخلت القوات الإثيوبية ممثلة عن القوى الأجنبية الكبرى، للقضاء على نظام "المحاكم الشرعية" لصالح فريق آخر، وبدعوى القضاء على الإرهاب وتنظيم "القاعدة". ويتم تهديد سوريا وإيران بالغزو المباشر من جانب أميركا وإسرائيل لوضع حد لإمداد المقاومة اللبنانية بالسلاح من إيران، ولإنهاء التدخل السوري في لبنان، وتأييد المقاومة الفلسطينية، ومنع الإرهاب، وإيقاف مقاومة مشاريع التسوية في المنطقة. وكما ضُرِب المفاعل النووي العراقي، يتم الإعداد للقضاء على أي مفاعلات نووية أخرى في المنطقة كي لا تمتلك بلداننا سلاح الردع النووي الذي يهدد أمن إسرائيل، تنفيذاً لمخطط التخلص تماماً من الجبهة الشرقية في الوطن العربي، سوريا والعراق، بعد أن تم تحييد الجبهة الجنوبية في مصر، والشمالية في تركيا باتفاقيات سلام واعتراف وصلح، بينما لا تزال الأراضي العربية السورية واللبنانية والفلسطينية محتلة. الصاحب الأوحد مشغول بالحكم والزعامة التاريخية والتوريث، والتحدث باسم الفرقة الناجية أو الإلهام السماوي... وتقوم الدول الصغرى بلعب دور الدول الكبرى مادام الوطن بلا صاحب، تمهد لنظام عربي دولي جديد يصبح فيه الوطن العربي مركز خدمات واتصال بين الشرق والغرب، ومجالاً للاستثمار، لتصبح إسرائيل جزءا منه طالما أنها قوة اقتصادية، وامكانات استثمارية، ومتعامل يدفع عوائد أكثر، ولا مانع أن تكون جزءا من شبكة عربية لأنابيب النفط. وهي في هذه الحالة بوابة كبرى للتحديث، بعد أن تخلت مصر عن دورها التاريخي في الوطن العربي، فأصبح وطناً بلا صاحب، يأتيه من يشاء لملء الفراغ. أصحاب الأوطان في السجون والمعتقلات، تحت أهوال التعذيب الجسدي والنفسي. يخضعون لقوانين الطوارئ أو مكافحة الإرهاب أو حماية الوحدة الوطنية. والأحرار منهم أقلية غير مؤثرة، مجرد صمام أمان للنظم السياسية القاهرة للداخل، والتابعة للخارج. المثقفون والأدباء منهم يكتبون ويبدعون ثقافة وأدباً للتاريخ، يعبر عن مرحلة القهر والعجز والتبعية والضياع. يجرون عربة محملة بالأثقال بمفردهم ليصعدوا بها مسار التاريخ، يقيلون عثرته، وينهضون بكبوته حتى يأتي الزلزال فيغير الأوضاع، ويظهر التفاعلات الجديدة، وتنبثق منه المياه الجوفية السارية تحت الأرض أو حمم البراكين بعد طول غليان. وليست السماء والأرض فقط هما المفتوحتان للغزو العسكري المباشر، بل أيضاً العقول ونظم التعليم والمؤسسات الثقافية والإعلامية، مشْرعة للتبشير بالوطن البديل، التعليم للسوق باسم الجودة والحداثة، والثقافة العالمية لنشر قيم الاستهلاك، والإعلام لنشر قيم العولمة، وأن العالم قرية واحدة قضت ثورة الاتصالات فيه على الخصوصيات الثقافية التي مازالت تسبح ضد التيار. وأصحاب الأوطان الشرعيون في أغلبيتهم مشغولون بلقمة العيش، أو بالبحث عن مصدر للرزق في الداخل أو في الخارج، بالكسب السريع أو الهجرة. فضعُفَ الولاء، وعزَّ الانتماء، وضاعت القضية التي طالما حلم بها الناس في الخمسينيات والستينيات. انتهى ذلك الجيل الذي قاوم الاستعمار والصهيونية وساهم في بناء الدولة الوطنية وتحقيق المشروع القومي في الاستقلال الوطني والتصنيع، لحساب جيل جديد يوهم نفسه بالسعادة والخلاص عن طريق الدين أو "الشيشة" أو السعي وراء ملذات الحياة في المأكل والمشرب والمسكن... والتي ملأت الحياة العامة في الطرقات والمنتديات. وتحزب الناس للنوادي الرياضية بعد أن انعزلوا عن الأحزاب السياسية. إذا ما كان للوطن صاحب، وهو المقاومة الوطنية، فالكل صاحبه. يتناعون فيما بينهم دون إمكانية للوفاق الوطني في لبنان وفلسطين والعراق. يقتتلون فيما بينهم على السلطة في الداخل، والسلطة الفعلية في الخارج. نسوا مرحلة التحرر الوطني التي قامت فيها "جبهة التحرير الوطنية" بتحقيق استقلالها للجزائر ودحر المحتل الفرنسي. طالما أن الوطن بلا صاحب فإن التطرف سيزداد، والعنف سيشتد ، فعلى من يريد تحويل العجز إلى قوة، واليأس إلى أمل، أن يوقف الانهيار المستمر. ستنشط الحركات السرية بكل طوائفها، تنتظر لحظة الوثوب على السلطة كما حدث في عهد الثورات العربية في أوائل الخمسينيات بقيادة "الضباط الأحرار". فمازال تتراءى في الخيال البعيد صور أحمس ورمسيس وصلاح الدين وقطز ومحمد علي وعبد الناصر في مصر، وعمر المختار وصالح بن يوسف وبن بللا وعلال الفاسي في المغرب العربي، والمهدي في السودان، وعز الدين القسام في فلسطين... فالأوطان لها صاحب، شعوبها وقادتها الوطنيون ومسارها عبر التاريخ.