قبل نحو عشرين عاماً كان صدام حسين وأعوانه يشربون نخب أو شاي نجاح حملة "الأنفال" التي أبادت ما بين مئة إلى مئة وثمانين ألف كردي ودمّرت ثلاثة آلاف قرية وهجّرت الآلاف. وفي هذا الأسبوع فقط، حكمت محكمة بغداد على ثلاثة منهم بالإعدام شنقاً وبسجن اثنين مدى الحياة.. ولولا انتقال صدام إلى محكمة الآخرة العام الماضي لكان سادسهم في قفص "الأنفال". والغريب أننا نعتقد بأن اللعنة تصيب عشرة في جريمة سفك دم العنب، أي جعله خمراً، كما في الحديث النبوي الصحيح، ثم نظن أن ستة أشخاص فقط هم الذين يستحقون اللعن والموت في جريمة سفك دم مئة ألف إنسان.. لذلك نتعجب حين نرى جثثاً تتناثر في سماء العراق أو تطفو على مياه أنهاره بينما العجيب أن يباد مئة ألف إنسان، وهي جريمة واحدة فقط من جرائم النظام العراقي السابق، ثم يحاكم ستة أشخاص فقط، ويذهب باقي المشتركين في الجريمة إلى بيوتهم كأن شيئاً لم يحصل. ويقال في تبرير حملة "الأنفال"، وهي اسم لسورة قرآنية تعني غنائم الغزو، أن الأكراد كانوا يعملون ضد النظام المركزي في بغداد، وهو تبرير تافه حتى لو كان صحيحاً، فالأطفال والنساء والعجائز لم يعملوا ضد أحد وليس هناك أي مبرر لإبادتهم، وإذا افترضنا أن عدد هؤلاء يتجاوز نصف أي مجتمع، فنحن نتحدث عن خمسين ألف إنسان بريء براءة تامة، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يقوم ستة أشخاص فقط بإبادة كل هؤلاء البشر. كان هناك صدام واحد يأمر فيطاع، وكان هناك عشرة أو عشرون شبه إنسان ينقلون أوامر الطاغوت عبر حناجرهم إلى الباقين من الأحياء الموتى ضميرياً، وهؤلاء الباقون يتابعون تنفيذها، وهناك آلاف ينفذون القرارات بأيديهم وأرجلهم ويظنون أن البذلة العسكرية تعفيهم من أي مسؤولية كما كان جنود فرعون يظنون حين تبعوه إلى البحر الذي ابتلعهم وفرعونهم الذي طغى في البلاد. ذهب صدام الأصلي شنقاً وسيلحق به عشرة وعشرون صدَّاماً كربونيون بالطريقة ذاتها.. وماذا بعد؟ أين الذين عملوا على الأسلحة الكيماوية والغازات السامة بالورقة والقلم والقمع وأنبوب الاختبار خاصة من كانوا يعلمون أنها تجهّز لشيِّ اللحم البشري؟ أين الذين نقلوا الأسلحة من مكان لآخر بأيديهم وبشاحنات النقل وهم يقولون: "يستحقون الحرق"؟ أين الذين طاروا بالـ"سوخوي" وفتحوا صنابير العذاب فوق رؤوس الأبرياء وهم يتبادلون شارة النصر؟ أين الذين قادوا الدبابات وأطلقوا حمم الجحيم؟ أين الذين ساقوا الأبرياء العزّل من التلال الخضراء في الشمال إلى صحراء الجنوب المقفرة بالشاحنات العسكرية لينفذوا فيهم مشيئة صدام؟ أين الذين قادوا الجرافات وحفروا الحفر والذين ملأوها بالبشر والذين أهالوا التراب على "المُؤنفلين" ليلاقوا الله جماعياً وهم يستغيثون به ويشكون إليه؟ أين الذين صوّروا وكتبوا وابتهجوا وأعلنوا نبأ النصر الساحق على نساء يحملن القدور وأطفال يلعبون بالدمى وعجائز كانوا يتذكرون صباهم في الأزقة الترابية؟