فلسطين هذه الأيام تدور حول نفسها في حلقة مفرغة وكأنها مركبة فضائية ضلت طريق العودة إلى محطتها الأرضية التي انطلقت منها، ولم تتعرض دولة أو منطقة أو إقليم إلى احتلال متكرر مثلما حدث لفلسطين، فالاحتلال الأول في 1948 والأول مكرر في 1967، أما الاحتلال الثاني من قبل "حماس" لغزة وهو الوجه الغريب للقضية، أما الاحتلال الثالث فهو من وجهة نظر "حماس" فقد نعتت (التدويل) بالاحتلال الذي سيلقى رداً شنيعاً ويبنى له سد منيع فيما لو فكرت حكومة أبو مازن بالاتجاه نحو طلب قوات دولية تحفظ دماء الأبرياء من السيلان في الأزقة والطرقات، مع أن التدويل مسألة سياسية إنسانية ومشروع قديم في الرؤية الفلسطينية، إلا أن سبل تحقيقه كانت عصية على التطبيق بسبب المتغيرات غير المتوقعة لأصل القضية التي كانت هماً إسلامياً ثم تدحرجت إلى المنحدر العربي وصولاً إلى المضيق الفلسطيني، أما اليوم فإن الفلسطيني ذاته يريد الصعود إلى التدويل حتى لا تختفي من الخريطة العامة على أقل تقدير. فإذا كان التدويل سيمضي قدماً وفق المشهد السوداني في دارفور فإننا سوف نضع في بطوننا (بطيخاً صيفياً) ونقول بأنه قادم لا محالة وبلا صيحات الجهاد والقتال التي تسوق الأعلام الذي لا يلتفت إليها أحد عندما يفقد أي خطاب المصداقية في إلقائه على عواهنه دون التمعن في النظر إلى المسار الصعب الذي يراد خوضه بالكلمات الرنانة والجوفاء منذ عقود. المشهد الفلسطيني يصعب أيضاً على الهضم أو الفهم الذي يخلق طرحاً إيجابياً لصالح أم القضايا في العالم أجمع ولكن بعيداً عن لغة أم المعارك فنتائجها وخيمة على الأمة العربية والإسلامية. طبيعة الصراع اليوم في فلسطين لا تحتمل لغة الإغراق في الحديث عن احتلال جديد يراد لفلسطين الرضوخ له، فسياسات الدول لا تدار بلغة الأشاوس ممن يحملون البنادق بدل أعلام السلام الحقيقية. حتى المراقب يحتار في اختيار مسمى محدد للحكومة الفلسطينية بعد انقسام حكومة هنية المقالة ويفترض سياسياً أن تكون كذلك وحكومة أبو مازن التي تطالب بالحل الدولي قبل استفحال الأمور إلى وضع يشعل حرباً أهلية مع استعداد طرفي القضية لارتكاب الفظاعة في أبشع صورها. فالرحمة المرجوة للقضية الفلسطينية التي يراد تذويبها من قبل الأطراف المتصارعة، تأتي من التدويل المرفوض من "حماس" والمرغوب من الحكومة الشرعية وفقا للمقاييس السياسية، فما يدور من حول فلسطين يفرض تدخلاً ما لوقف الأزمة الراهنة قبل الوصول إلى مرحلة تداول مصطلح الحرب الأهلية الفلسطينية التي لو دارت رحاها الآن –لا سمح الله- سوف تفقد جذوة الشعوب العربية والإسلامية المتعطشة لرؤية ومشاهدة ولادة دولة فلسطينية لا تقل في سيادتها عن أي دولة أخرى في هذا العالم الذي يسعى أيضاً لاستعجال تلك الساعة لأنها من صالح الجميع وليس فلسطين فحسب، فالاحتلال الثالث قد يكون المخرج للأفضل مقارنة بالأوضاع الحالية في الأراضي الفلسطينية بشقيها "المازنية" و"الحماسية". فما يتم تداوله حول القضية الفلسطينية منذ النشأة الأولى بعيداً عن السيطرة، سواء كانت الغلبة الفعلية لإسرائيل في هذه المعادلة الشائكة أو الغلبة الوقتية لطرف فلسطيني ضد آخر، فالمهم أن لا نعوّل المشاكل الجارية في هذه اللحظات الحرجة على أن المنقذ الأول بيد الاحتلال الثالث كما يراد الترويج له، لكي تبقى فلسطين عالقة بين السماء والأرض ولا تجد لها صرحاً لهامان تعود من خلاله إلى مكانها الصحيح وفقاً لمجريات السياسة التي يجب أن تستقر عليه الأوضاع دون الدخول في أنفاق المصالح الضيقة.