قد يجد القائمون على مشروع التقنية الحيوية العالمي الذي تبلغ تكلفته 73.5 مليار دولار أنفسهم مضطرين إلى الدخول في نزاع مع العلماء الذين توصلوا مؤخراً إلى اكتشاف يشكك في المبادئ العملية التي قام ذلك المشروع عليها. ففي الشهر الماضي، نشر "كونسورتيوم" من العلماء نتائج دراسة تتعارض مع الرأي التقليدي المتعلق بالطريقة التي تعمل بها الجينات. وهذه الدراسة كانت نتيجة جهد شاق، استمرت لمدة أربع سنوات، أشرف عليها "معهد الولايات المتحدة الوطني لأبحاث الجينوم البشري"، وتم تنفيذها بواسطة 35 تابعة لـ 80 مؤسسة موزعة في مختلف أنحاء العالم. توصل الباحثون المشاركون في هذا الجهد إلى أن الجينوم قد لا يكون "مجموعة منظمة من الجينات المستقلة" في نهاية المطاف، وخصوصاً إذا ما تم الأخذ في الاعتبار أن كل تسلسل من الحمض النووي DNA يرتبط بوظيفة واحدة ارتباطاً وثيقاً بنفس الطريقة، التي ترتبط بها طبيعة وتكوين شخص معين بقابليته للإصابة بمرض معين مثل مرض السكري أو القلب. وتوصل هؤلاء الباحثون إلى أن الجينات تبدو وكأنها تعمل في شبكة معقدة، وأنها تتفاعل وتتقاطع مع بعضها بعضاً، ومع غيرها من المكونات الأخرى بطرق لم يتسن فهمها حتى الآن. ووفقا لمصادر المعهد المذكور، فإن تلك الاكتشافات"ستستفز العلماء وتدفعهم للتفكير في بعض الآراء المتبناة منذ فترة طويلة عن ماهية الجينات وما الذي تقوم به". ويذكر أن البيولوجيين قد سجلوا آثار تلك الشبكة على الكائنات الأخرى لسنوات عديدة، ولكن المعروف في مجال العلوم هو أن الاكتشافات لا تتحول إلى جزء من التيار العام للفكر العلمي، إلا بعد أن يتم ربطها بالبشر. أما الآن وبعد أن أصبحت تلك الرابطة أو الصلة موجودة، فإن المتوقع هو أن تكون لهذا التقرير أصداء بعيدة المدى تتعدى حدود المختبرات العملية. من المعروف أن كل اكتشاف جديد- بحكم تعريفه- يحمل في طياته خطراً، وهو ما يرجع لحقيقة أن أصحاب الاكتشاف الجديد والمؤمنين به لا يفكرون ولا يرون عادة سوى المزايا التي ستترتب عليه. ولكن عندما يتعلق الأمر بالاكتشافات في مجال الطعام والدواء، فإن ذلك الاعتقاد قد يكون خطراً لأنه يتم على الدوام اكتشاف أشياء جديدة بعد وضع الاكتشاف الجديد موضع التطبيق قد تثبت في النهاية خطأ المبادئ التي ينبني عليها الاعتقاد بالمنافع والمزايا، التي ستترتب على الاكتشاف الجديد. فعلى سبيل المثال، ظل الأطباء، ولفترة طويلة، ينظرون إلى المضادات الحيوية على أنها دواء سحري نجح لأول مرة في التاريخ في تقليص احتمالات إصابة البشر بالأمراض البكتيرية. ولكن الأطباء لم يكونوا قد عرفوا بعد أن المادة الجينية المسؤولة عن توفير القدرة على مقاومة العدوى بالنسبة للمضادات الحيوية، تنتقل هي ذاتها بين أجناس مختلفة من البكتيريا، وهو ما أدى لنشوء أنواع من الميكروبات التي أصبح لا يجدي معها أي نوع من المضادات الحيوية. والمبدأ الذي أدى إلى صعود صناعة التقنية الحيوية وفر هو الآخر وعوداً بمنافع لا تقل أهمية عن تلك المنافع التي كانت تعد بها المضادات الحيوية. فهذا المبدأ الذي كان معروفاً بأنه يمثل "العقيدة المركزية الثابتة للبيولوجيا الجزيئية "كان يقوم على أن كل جين من الجينات التي تعيش في الكائنات الحية بدءاً من البشر وحتى البكتيريا يحمل المعلومات المطلوبة لإنتاج بروتين واحد فقط. ففي عقد الستينيات من القرن الماضي اكتشف العلماء أن الجين الذي ينتج نوعا معينا من البروتينات في كائن حي واحد قادر على إنتاج بروتين مشابه له إلى درجة كبيرة في كائن آخر. وكان التشابه بين الأنسولين المنتج من البشر والأنسولين المنتج من الخنازير، هو الذي جعل الأنسولين المستخرج من الخنازير علاجاً قادراً على إنقاذ حياة المصابين بمرض السكري. وقد اعتقد العلماء في ذلك الحين أن أي جين مستخرج من أي كائن حي يمكن أن يتلاءم بشكل تام وقابل للتنبؤ به إذا ما تم وضعه في تصميم أكبر حجماً من التصميم الذي كان موجوداً به أصلاً- تصميم يمكن للمنتجات والشركات أن تبني عليه، والذي يمكن حمايته بواسطة قوانين حقوق الملكية الفكرية. وهذا الافتراض الذي تمت معارضته الآن هو ما أسماه أحد علماء البيولوجيا الجزئية وهو "جاك هاينمان"، أستاذ البيولوجيا الجزيئية في كلية العلوم البيولوجية بجامعة كانتربيري في نيوزيلاندا بـ" الجين الصناعي" ووصفه بأنه:"الجين الصناعي هو جين يمكن تعريفه وحيازته، وتعقبه وإثبات أنه سليم بدرجة مقبولة، وأن له تأثيرا موحدا، ويمكن بيعه، واستعادته". وفي الولايات المتحدة فإن مكتب براءات الاختراع والعلامات التجارية يسمح بمنح براءة الاختراع للجينات على أساس ذلك التأثير أو الوظيفة الموحدة. فقد أشارت دراسة تم إجراؤها عام 2005 إلى أنه قد تم تسجيل ما يزيد عن 4000 جين بشري في الولايات المتحدة بمفردها. وهذا العدد لا يمثل سوى شريحة صغيرة من العدد الإجمالي المسجل لجينات الحيوانات والنباتات. وإذا ما نظرنا لذلك على ضوء النتائج الأخيرة التي توصل إليها في الآونة الأخيرة كونسورتيوم العلماء المشار إليه في بداية هذا المقال، فإن هذا التعريف يثير بعض الأسئلة الجوهرية حول أمكانية الدفاع عن صحة براءات الاختراع تلك. فإذا ما كانت الجينات لا تمثل سوى مكون واحد من مكونات الطريقة التي يعمل بها الجينوم، فماذا سيحدث عندما يدعي عالم آخر بوجود مكون آخر حيوي؟ هل سيخضع زعمه في مثل تلك الحالة إلى الجدل باعتباره افتئاتاً على ما سبق؟ وهل يمكن لأصحاب براءة اختراع جين معين أن يجدوا أنفسهم عرضة لضرر جانبي غير مقصود كنتيجة للآثار المترتبة على شبكة الجينات التي يمتلكونها؟ الوقت قد حان للإجابة على هذه الأسئلة وغيرها بواسطة القائمين على صناعة التقنية الحيوية، الذين يتوجب عليهم إلى جانب ما تقدم إعادة فحص الآثار الأكثر دقة لمنتجات تلك الصناعة، وأن يتقاسموا ما يعرفونه في هذا الشأن مع ما يعرفه غيرهم من العلماء ومشرعي اللوائح والقوانين. دنيس كاريوسو ــــــــــــــــــ المدير العام لمعهد "هايبريد فايجور" المختص بحل المشكلات بأسلوب تعاوني. ـــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"