تم إذن اختيار توني بلير مبعوثاً للجنة الرباعية الدولية للسلام في الشرق الأوسط، والتي لم تفعل شيئاً ناجعاً (بعد!) للعرب والمسلمين منذ تشكيلها عام 2003. وبعد دقائق على إعلان خبر الاختيار، سارع جورج بوش إلى الترحيب بتعيينه، رغم ردود فعل معارضة لذلك التعيين بعد هبوط مصداقية بلير في العالمين العربي والإسلامي بسبب إدخاله بريطانيا في حرب العراق وأفغانستان، وعدم دعوته لوقف فوري للعدوان الإسرائيلي صيف العام الماضي على لبنان، وتخليه عن بعض الأعراف السياسية الدولية محاولاً تقبل الحقائق "الأميركية" حتى لو كانت، أحياناً، في غير مصلحة بريطانيا. و"بلير" هذا، رجل "العلاقات العامة"، المحب "للبهرجة"، يسعى هذه الأيام ليختم حياته بطريقته الخاصة، معولاً على "التاريخ" لتقييم ما قدم من "إنجازات"، سواء داخل بريطانيا أو خارجها. ومع أنه الفائز بثلاث ولايات متتالية، وأطول الزعامات العمالية بقاءً في منصب رئاسة الوزراء... وجدناه يستسهل الاستقواء بالتحالف مع الإدارة الأميركية حتى بدت بريطانيا في حالة "تبعية" لسياسة الولايات المتحدة. إذن، لماذا جاء اختياره مبعوثاً للجنة تحاول إيجاد حل لأكبر مشكلة مستعصية عرفها التاريخ –مشكلة الصراع الفلسطيني/الإسرائيلي؟ وإذ نستذكر إنجازاته في إيرلندا الشمالية، هل ذلك يكفي ليجعل منه رجل سلام في الشرق الأوسط أيضاً؟ صحيح أن جهود بلير (وغيره) تكللت بتحقيق السلام في إيرلندا، ويمكن الافتراض – على حد زعمه – أنه من "أكثر المتحمسين" لإيجاد حل للصراع العربي الإسرائيلي. لكن كثيرين يرون أن إيرلندا الشمالية ليست فلسطين، وبلير لم يعد رئيساً للوزراء يقف الشعب البريطاني خلفه للخروج من مأزق داخلي، بل هو مجرد مبعوث (كغيره من موظفي الخارجية الأميركية) يحمل رسالة لهذا الزعيم أو ذاك، دون أي صلاحيات حقيقية. فهو، في أعين كثير من المراقبين، قريب جداً من الإدارة الأميركية ولن ينظر إليه كحيادي، إضافة لكونه يحمل إرثاً طويلاً وثقيلاً لتدخلات لا تتمتع بأي شعبية. ولقد كان بلير أول زعيم يتصل به بوش بعد هجمات سبتمبر ليتفقا على ما عرف لاحقاً بـ"الحرب على الإرهاب"، تلاها سفره رسولا لبوش إلى عدة دول لكسب الدعم لتلك الحرب. وبذلك تحول رئيس وزراء بريطانيا العظمى إلى "ساعي بريد" وفق تعابير صحفية، مع أن "أنتونى سيلدون" مؤلف كتاب "توني بلير" خفف الوصف إلى "وزير خارجية أميركا"! وعندما تحصل بلير لبوش على ما أراد: "الشرعية" لشن حرب على أفغانستان بزعم القضاء على "طالبان" و"القاعدة"، جرى تكريمه لاحقاً من قبل عدد من القادة الأميركين غير مبالٍ كثيراً بالاعتراضات المحلية ولا الدولية على دوره الداعم، بلا حدود، للولايات المتحدة وسياساتها. إن شخصية ومسيرة بلير، مقرونة مع الخطوة الجديدة في حياته السياسية، تتكشف عما نعتقد أنه سعي لدخول "التاريخ" من أحد أوسع أبوابه (جائزة نوبل)، رغم أن من مفارقات هذه الجائزة، كونها منحت لثلاثة من كبار الساسة الإسرائيليين الملطخة أيديهم بالدماء، وهو ما ينطبق على بلير نفسه. فخلال سنواته العشر، لم يقدم – فيما يرى كثيرون- شيئاً مفيداً (بقدر ما قدم من ضرر) للعرب والمسلمين خاصة على صعيد القضية الفلسطينية، وهو يتحمل مسؤولية نزيف دماء عشرات الجنود البريطانيين ومئات آلاف العراقيين، وكذلك الحال في أفغانستان. والتظاهرات الكبيرة التي شهدتها العاصمة لندن طالبت، مراراً، بمحاكمته كمجرم حرب بسبب ما اعتبر "تلفيقه الأكاذيب" أمام البرلمان البريطاني، ضمن مساعيه لتعبئة الرأي العام كي يساند قراره بدعم الغزو الأميركي، وإرسال (ثم بقاء) قوات بريطانية للمشاركة في الحرب على العراق. وفي سياق متمم، يبقى بلير، في موضوع الصراع العربي/الإسرائيلي، على نفس خط الموقف الأميركي المعروف بانحيازه لإسرائيل، وهو – ربما- الأمر الذي دفع واشنطن بالأساس لترشيحه لمنصب موفد سلام للجنة الرباعية بعد أن أثبت ولاءه، تكراراً، لمجموع سياسات الولايات المتحدة منذ صعود بوش لسدة السلطة. ختاماً، واستخلاصاً، هل يمكن أن يصلح بلير لمنصب مبعوث سلام في أي منطقة، فما بالك في فلسطين حيث أدت السياسة الأميركية وتأييده الأعمى لها، إلى حالة الفوضى التي تعم منطقة الشرق الأوسط راهناً؟ إن جوابنا على هذا السؤال الأساس يتلخص بكون بلير –رغم كل ما قيل- قد اتبع الاستراتيجية الثابتة للمملكة المتحدة في العقود الأخيرة والتي قوامها أن العلاقة مع الولايات المتحدة لها الأولوية على كل اعتبار بما في ذلك علاقات بريطانيا الأوروبية، وبما في ذلك سمعتها الدولية. وتقتضي الأمانة منا القول إن بلير، الذكي جداً والخبير سياسياً، كان يعتقد أنه قادر على التأثير على بوش الذي لا تربطه علاقة حميمة بالذكاء وبالخبرة السياسية. وفعلاً، ووفقاً لتقارير عدة، أسهم تدخل بلير في "تلطيف" النزعة الأميركية المنحازة بشكل مطلق لإسرائيل، وكذلك في تلطيف نزعة التطرف في معاداة عدد من الدول على قاعدة محاربة الإرهاب. غير أن الأمانة تقتضي أيضاً التأكيد على أن حدود التأثير كانت أقل مما هو متوقع، الأمر الذي جعل صورة بلير "ذنباً" للولايات المتحدة تغلب على صورته "رأسا" أو "رقبة"! ومع ذلك، فخبرة بلير وذكاؤه، زائداً رغبته العارمة في دخول التاريخ عبر الحصول على جائزة نوبل للسلام بصفته "إطفائي الحرائق القومية" في كل من إيرلندا (حيث نجح) وفي الصراع الفلسطيني/الإسرائيلي (حيث سيحاول)... كلها اعتبارات ترشحه للعب دور ما قد يكون مهماً وقد لا يكون. وفي هذا السياق، يلفت النظر كاريكاتير نشرته صحيفة أميركية جعلت بوش (وكوندوليزا رايس الواقفة إلى جانبه) يقولان عن بلير (الراكب على الجمل والمعتمر كوفية): "لقد وضعنا تصوراً لشبه مبعوث، وشبه وسيط، وشبه ضابط ارتباط، وشبه مستشار"! وبالمقابل، كتب "ياعيل باز" في صحيفة "معاريف" العبرية، يقول: "في ظاهر الأمر يجب كبح الحماسة لأن تعيين "الرباعية" له لا يشمل تقديم التفاوض بين إسرائيل والفلسطينيين، وهو دور ستستمر كوندوليزا رايس في شغله، لكن من يعرف الرجل (ليس شخصياً بل كرئيس حكومة) يعلم أنه لن تستطيع أية كوندوليزا أن توقفه عن التدخل الفعال في التفاوض، بما في ذلك المبادرات الجديدة إزاء فشلها المتواصل في الوفاء بالمهمة. ويبقى القول الفصل فيما إذا سمحت له القوة الأعظم عالمياً (الولايات المتحدة) والقوة الأعظم إقليمياً (إسرائيل)، بالنجاح في مهمة إنجاز حل الدولتين أم لا؟ تلك هي المسألة حيث أن العالمين العربي والإسلامي يعيشان في "حالة من الانبطاح" الذي لن يعوق مهمة بلير، بل هي "حالة" ستساعده في إنجاز ذلك الحل الذي –قطعاً- سيصب أغلب الماء في الساقية الإسرائيلية.