كثيراً ما تميل أحزاب الدرجة الثالثة في المشهد السياسي البريطاني اليوم إلى الصراع والنزاع. أما النزاع الذي أثارته مؤخراً، فمرده إلى الانتخابات العامة التي زعمت هذه الأحزاب، أنها لم تنل نصيبها الكافي والعادل من الدعاية الإعلامية التي تلزمها فيها. ومن بين هذه الأحزاب، حزب "الديمقراطيين الليبراليين"، وهو الحزب الذي كان قد أنشئ عام 1988، لدى اندماج "الحزب الليبرالي" العريق الذي يعود ماضيه إلى عدة قرون، مع التشكيلة الحديثة لـ"الحزب الديمقراطي الاشتراكي الجديد". أما السمعة التي استمدها حزب "الديمقراطيين الليبراليين"، فمنشؤها هو كونه الحزب الرئيسي الوحيد الذي صوّت ضد الغزو الأنجلو أميركي للعراق عام 2003. ولبضعة أيام، لمع بريق هذا الحزب وعلا نجمه لأسباب لم يتكهن بها أو يتوقعها أحد. وكما نعلم، فالبريق هو العامل الأكثر لفتاً للاهتمام والأنظار في عالم السياسة. فكيف حدث ذلك؟ في السابع والعشرين من يونيو المنصرم، تولى وزير الخزانة السابق، "جوردون براون"، منصب رئاسة الوزراء، خلفاً لتوني بلير. وقد أمضى براون فترة انتظار وقلق معذب من أجل الوصول إلى هذا المنصب، امتدت عشر سنوات. وكان مرجحاً أن يجري براون تغييرات جوهرية على مستوى السياسات، إثر تشكيل مجلس الوزراء الجديد. ومن وجهة نظري الشخصية، فقد كان لزاماً لتلك التغييرات أن تشمل، وعلى جناح السرعة، استبدال "مارجريت بيكيت" وزيرة الخارجية، كما توقعت. وكان جوردون براون، قد طلب مقابلة سير "مينزيز كامبل" البالغ من العمر 65 عاماً، وزعيم حزب "الديمقراطيين الليبراليين" منذ عام 2006. كان ذلك في الثامن عشر من شهر يونيو الماضي. وقد التقى الرجلان بالفعل في اجتماع استمر حوالى نصف ساعة. ويذكر أن القاعدة الانتخابية لكليهما هي بلدة "فايف" الاسكتلندية، وأن الاجتماع سار بينهما على خير ما يرام. وفي ذلك اللقاء، أبلغ براون، سير كامبل عن اعتزامه دعوة اللورد "بادي آشداون"، الزعيم السابق لحزب "الديمقراطيين الليبراليين"، والذي سبق له أن تولى منصب المندوب السامي للمجتمع الدولي في البوسنة، للانضمام إلى التشكيل الوزاري الجديد، في منصب وزير خارجية أيرلندا الشمالية، مع العلم أنه المنصب الذي يتمتع اللورد "آشداون" بكفاءة عالية له. كما أعرب براون في اللقاء نفسه، اعتزامه دعوة السيدة "نويبرجر"، المتحدثة اللبقة في مجال الشؤون الصحية التابعة للحزب، كي تنضم إلى عضوية مجلس اللوردات. ومن ناحيته طلب "مينزيز كامبل" إمهاله 24 ساعة للتفكير في هذا العرض المثير للجدل بدرجة كبيرة، ولاستشارة زملائه في الحزب. لكن وقبل أن يعود مينزيز كامبل بإجابته إلى براون، كان قد راج في الصحافة أن اللورد آشداون قد عرض عليه منصب عضوية مجلس الوزراء الجديد، غير أنه رفضه. وبذلك فقد وضع كلا الرجلين في موضع مواجهة حرج، إذ بدا براون متخبطاً بعض الشيء في مساعيه لتشكيل مجلسه الوزاري الأول، بينما استشاط مينزيز كامبل غضباً بسبب محاولة تخطيه من قبل براون، ومناقشته للورد آشداون قبل حصوله على موافقته هو، باعتباره زعيماً لحزب "الديمقراطيين الليبراليين". يذكر أن براون كان قد انتقِدَ إبان توليه لمنصب وزير الخزانة، وذلك بسبب نشاطه وتحركه ضمن دائرة ضيقة من أصدقائه ومستشاريه السياسيين، مقابل اكتفائه بإبلاغ مسؤولي وزارته الرسميين بنتائج ما يتوصل إليه في وقت متأخر دائماً من الجهود الوزارية التي يبذلها في إطار تلك الدائرة الضيقة من الأصدقاء والمستشارين. كما يؤخذ على براون كونه أحد الأقطاب الرئيسيين لـ"حزب العمل" في اسكتلندا، مع العلم أن هذا الحزب يعرف بكونه منظمة قبلية متعصبة هناك. لذلك، وأملاً منه في التخفيف من وطأة هذه الانتقادات، فقد عمد براون من مساعيه المذكورة لاستقطاب عدد من وجوه حزب "الديمقراطيين الليبراليين" إلى إعطاء انطباع عام بأن له مظلة واسعة للنهج الجديد الذي يتبناه لحكم بلاده. غير أن هذا لم يكن سوى نوع من عرض الخلاف السياسي الجانبي. والحقيقة أن مينزيز يواجه مشكلة أخطر بكثير، جراء تراجع التأييد الشعبي لحزبه من نسبة 20% إلى 14% فحسب، وفقاً لآخر استطلاع للرأي العام أجرته "صنداي تايمز". ورغم الفوز الباهر الذي حققه "الديمقراطيون الليبراليون" في اسكتلندا عام 2006، فإن النتائج التي حققوها في انتخابات هذا العام جاءت مخيبة للآمال. وبينما توطدت أقدام "المحافظين" في جنوب شرقي البلاد، لم يحقق "الديمقراطيون الليبراليون" أكثر من الحفاظ على معاقلهم في المدن الشمالية منها. إلى ذلك يتوقع أن يواجه مينزيز كامبل، انتقادات حادة داخل المؤتمر الحزبي الذي سيعقد في سبتمبر المقبل، ما لم يبدأ الحزب تحسين صورته وموقفه في استطلاعات الرأي العام وفي عيون الناخبين. وللسبب نفسه، فإن هناك الكثير من ناشطي الحزب يرغبون في تغييره كزعيم للحزب قبل حلول موعد الانتخابات العامة المقبلة. بقي أن نقول إن هناك مرشحين محتملين ليخلفه أحدهما في منصب زعامة الحزب، هما "نك كليج" و"كريس هيون"، وكلاهما جيد، إلا أنهما يفتقران إلى الخبرة السياسية العملية. ولذلك اعتقد شخصياً، أن الحزب لن يغرق في معركة جانبية لاختيار قيادة جديدة له، قبل انعقاد الانتخابات العامة المقبلة. وبينما قرر جوردون براون السعي للحصول على تفويض من ناخبيه لحكومته الجديدة، بل الحصول على تفويض له هو شخصياً، بحكم كونه لم يسبق له أن خاض معركة انتخابية قبل أن يصبح زعيماً لـ"حزب العمال"، فالمتوقع أن يبذل "الديمقراطيون الليبراليون" أقصى ما بوسعهم في سبيل زيادة عدد مقاعدهم البالغة 63 مقعداً في مجلس العموم. وهناك خطر يحدق بالحزب، نتيجة احتمال تضييق الحزبين الكبيرين عليه، خاصة وأن هذين الأخيرين يصارعان أيضاً من أجل السيطرة على مركز السياسة البريطانية. هذا وتحيط الشكوك حالياً بمصير الأغلبية البرلمانية التي سوف تسفر عنها الانتخابات العامة المقبلة، إذ يتوقع لها أن تكون أغلبية مذبذبة. وفيما لو حدث ذلك، فسوف يتعين على مينزيز كامبل تحديد أي الحزبين الكبيرين سيدعم في ائتلاف برلماني لا بد منه. الشائعات السارية الآن، تشير إلى أن براون سيعرض عليه منصب وزير الخارجية في هذه الحالة. وفيما لو حدث ذلك، فسيكون خياراً باهراً بكل تأكيد!