في الخامس والعشرين من شهر يونيو المنصرم، ألقى "ريتشارد لوجار"، السناتور الجمهوري من ولاية إنديانا، حديثاً أمام مجلس الشيوخ، يتوقع له أن يلقي بتأثيراته البالغة على مجمل السياسة الخارجية التي تتبناها إدارة جورج بوش. ومما قاله "لوجار" في ذلك الحديث، أن مسارنا الحالي في العراق، قد انقطعت به السبل عن مصالحنا الأمنية القومية في منطقة الشرق الأوسط وما وراءها. وأردف لوجار ذلك القول بالمضي في تفصيل ما يراه خطأًً في السياسات الخارجية التي تتبعها إدارة بوش، مع تحديد الوسائل الكفيلة بتصحيح تلك الأخطاء. وبعد فلماذا يستمد هذا الحديث كل هذه الأهمية التي حظي بها؟ أولى الإجابات، أن لوجار، ربما كان أكثر أعضاء مجلس الشيوخ احتراماً ووثوقاً في المسائل المتعلقة بالسياسات الخارجية الأميركية. وثانيها كونه من أبرز القادة الجمهوريين في لجنة العلاقات الخارجية التابعة لمجلس الشيوخ، فضلاً عن اتسامه بالاستقلالية والتوازن الفكري، وكذلك لما عرف عنه كمشرعٍ معتدلٍ، يتسم بالحس العملي تجاه المصالح الأميركية، وبما ينبغي على أميركا أن تلعبه من دور على الصعيد الدولي. ولكل هذه المزايا مجتمعة، فإنه يصعب جداً العثور على شخصية أكثر اتزاناً وعمقاً فكرياً من لوجار، في وسعها مناهضة سياسات الرئيس بوش، من داخل صفوف الحزب الجمهوري. وبما أن لوجار لا يزال على التزامه وتأييده لسياسات الرئيس بوش، فإن ذلك يعطي أهمية لما قال وثقلاً مضاعفاً في واقع الأمر. ولكي لا نخطئ الفهم، فإن لوجار ليس من عداد الداعين لسياسة الانسحاب من العراق. ومن رأيه أنه لا يزال في وسع الولايات المتحدة الأميركية تعزيز مكانتها في الشرق الأوسط. غير أن ذلك يتطلب خفض حضورها العسكري الحالي في العراق، مع إعطاء قدر أكبر من الاهتمام للخيارات الدبلوماسية والاقتصادية. واعتَبَر لوجار ضمن حديثه، أنه ليس من واجب الرئيس الاستماع إلى الآراء البناءة داخل الكونجرس فحسب، بل ينبغي على هذا الأخير الانخراط في حوار بناء من جانبه مع الرئيس أيضاً. أما فيما يخص السياسات والاستراتيجيات المعمول بها حالياً في العراق، فقد استشهد لوجار بثلاثة مآخذ عليها. أولها أن التناحر الداخلي العراقي، قد بلغ مدى يصعب معه توقع قدرة قادة مختلف الفصائل العراقية المتناحرة على التوصل لأي تسوية سياسية سلمية للنزاعات الدائرة، في المدى القريب أو المنظور. ورغم قبوله لاحتمال قدرة هؤلاء القادة على بناء شكل ما من أشكال الديمقراطية، فإن المشكلة هي أن المواطنين الأميركيين يريدون رؤية النتائج في غضون أشهر معدودة. أما الأمر الثاني الذي استشهد به، فهو الإنهاك الذي أصاب الجيش الأميركي، ما ترتبت عنه استحالة زيادة عدد القوات هناك، في حين باتت العديد من المصالح القومية الأميركية في خطر محدق. وبسبب هذا الضغط الشديد الذي تعرض له الجيش الأميركي، فقد أصبح لزاماً علينا الكثير مما يجب فعله لإعادة إصلاح هذه المؤسسة التي لا غنى لنا عنها. ومن رأي لوجار، أنه لا سبيل لبدء ذلك الإصلاح، من دون الاتجاه نحو تبني سياسة عراقية أكثر استدامة. أما الأمر الثالث، فيتلخص في إشارته إلى القيود الداخلية المفروضة على الجدول الزمني الأميركي نفسه. وما يحتم هذه القيود، عدم قبول الشعب الأميركي لمواجهة عسكرية مفتوحة المدى مع العدو. ولذلك دعا لوجار الرئيس بوش وفريقه، إلى ضرورة التقيد بقصر الحد الزمني المفروض على العمليات العسكرية الجارية في العراق. وبعد أن بيّن لوجار رأيه كاملاً، مضى لاقتراح عدد من الحلول الكفيلة بتحويل الولايات المتحدة نحو تبني سياسات وجود عسكري أكثر استدامة في العراق، بما في ذلك اقتراحه ضرورة قبول التعاون الإيجابي مع جيران العراق، وكذلك مع الأمم المتحدة، وغيرها من المؤسسات ذات المصلحة الحيوية في استقرار ذلك البلد. هذا ومن المتوقع أن يوفر حديث لوجار غطاءً سياسياً للعديد من القادة الجمهوريين الذين يزدادون قلقاً إزاء ما يجري الآن في العراق. كما يوفر الحديث خلفية ممتازة لزيارة الجنرال ديفيد بترايوس –القائد العام للقوات الأميركية في العراق- المرتقبة إلى واشنطن في شهر سبتمبر المقبل. وأكثر ما يتوقع فيها، أن يستعرض بترايوس أمام كل من الكونجرس والبيت الأبيض، ما أحرز من تقدم في الجهود المبذولة لاستقرار العراق، إثر تطبيق سياسة زيادة عدد القوات، اعتباراً من مطلع العام الجاري. وفي رأيي الشخصي أن هناك ثلاثة احتمالات للرسالة المتوقع للجنرال بترايوس عرضها أمام الجهتين المذكورتين. أولها أن هذه الخطة قد أخفقت، وثانيها أنها تتطلب مزيداً من الوقت، كي تحقق أهدافها. أما الاحتمال الثالث، فيتلخص في رجوح الاحتمال الثاني. بيد أن المعضلة الكبرى هي إمكان قياس فداحة تكلفة خطة الزيادة هذه، بعدد القتلى من الجنود الأميركيين، حيث يسقط 100 جندي تقريباً كل شهر. كما تقاس هذه التكلفة كذلك بإصابة 2 إلى 3 منهم على الأقل بإصابات بالغة شهرياً. ورغم تقدم الطب الحديث الذي يحول دون موت من يقعون ضحية لهذه الإصابات، فإن الإعاقات المستديمة، خاصة الناجمة عن المتفجرات القذرة، تظل مثيرة للذعر العام. وطالما بقي معدل القتلى والمصابين من الجنود على ما هو عليه الآن، فالمرجح أن تتسع دائرة المعارضة الشعبية لهذه الحرب. ولذلك فالسبيل الوحيد للتخفيف من حدة الانتقادات الموجهة إلى الحرب، من دون التخلي عن العراق، ما يسفر عنه انتشار حالة من الفوضى العامة في المنطقة بأسرها، هو إما إحراز نصر عاجل على العدو هناك، أو الشروع في تطوير استراتيجية بديلة، تستهدف خفض عدد قتلانا من الجنود. والوسيلة الأفضل لتطبيق هذه الاستراتيجية البديلة، هي الوقف الفوري لكافة الأنشطة المتعلقة بزيادة عدد القوات، مع إعادة نشر الجنود في مناطق أخرى، خارج المدن الرئيسية. وعندها سوف يصبح ممكناً للقوات العراقية نفسها، تولي مسؤولية بسط الأمن في المراكز الحضرية هذه. ورغم احتمال عدم استعداد تلك القوات لتولي مسؤولياتها الأمنية بعد، إلا أنه وجب الاعتراف بأن الأميركيين قد سئموا سقوط أبنائهم وبناتهم ضحية لتبادل النيران بين الجماعات الطائفية العراقية من جهة، وبين هذه ومقاتلي تنظيم "القاعدة" من جهة أخرى. وحتى في حال إعادة نشر قواتنا خارج المدن الرئيسية، فإنه سوف يظل في وسعها تقديم الدعم القتالي واللوجستي للقوات العراقية. ولكن يبقى السؤال عما إذا كانت إدارة بوش من الجرأة والعزم بما يمكّنها من تبني استراتيجية بديلة كهذه أم لا؟!