كان تنامي دور حركة "حماس" تحدياً للسياسة المصرية التي بات عليها منذ نهاية العقد الماضي أن تجد صيغة لبناء علاقة إيجابية لا بديل عنها مع هذه الحركة التي تمثل "الإخوان المسلمين" في فلسطين، في الوقت الذي دخلت علاقتها مع جماعة "الإخوان" الأم في القاهرة مرحلة تدهور مستمر. ونجحت السياسة المصرية في الوصول إلى صيغة للفصل المرن بين الجماعة الأم المحظور وجودها من الناحية القانونية وامتداد هذه الجماعة الذي بات رقماً كبيراً ومؤثراً في الواقع الفلسطيني منذ انهيار مفاوضات الحل النهائي في (كامب ديفيد 2) في يوليو عام 2000. وبمقتضى هذا الفصل، أقامت مصر حواراً مستمراً مع حركة تمثل "إخوان فلسطين"، في الوقت الذي حافظت على رفضها الاعتراف بالحاجة إلى مثله مع "إخوان مصر" أي الأصل الذي تفرعت عنه هذه الحركة. فلم يكن ثمة مفر من حوار مع حركة "حماس" تقتضيه متطلبات الوساطة التي اضطلعت بها مصر بشكل متواصل بين الفلسطينيين. وأديرت تلك الوساطة بدرجة عالية من الموضوعية رغم ميل الوسطاء المصريين الطبيعي إلى برنامج حركة "فتح" واتجاهاتها وعدم اقتناعهم بما تتبناه "حماس" من مواقف. غير أن الصيغة التي ارتاحت إليها القاهرة لعدة سنوات، تتعرض الآن لتحد جديد أشد وأقوى من جراء فشل الوساطة التي قامت بها وتصاعد الصراع الفلسطيني الداخلي وصولاً إلى سيطرة "حماس" على قطاع غزة. إنه، إذن، حكم "إخواني" على حدود مصر التي يخوض نظامها الحاكم حرباً سياسية وأمنية لإحباط مشروع البديل "الإخواني" الذي يهدده. ورغم جسامة هذا التحدي، وما يسببه من قلق شديد في أوساط نظام الحكم المصري، فقد تعامل معه هذا النظام حتى الآن بقدر كبير من رباطة الجأش والتماسك السياسي. فهو لم ينجر إلى تصعيد ضد "إخوان" فلسطين، بخلاف سياسته تجاه "إخوان" مصر، والتي وصلت الآن إلى أقصى مستويات المواجهة ضدهم في عهد الرئيس مبارك. فقد استوعبت السياسة المصرية بسرعة صدمة سقوط غزة بكاملها بين يدي "الإخوان". ورغم تأييدها الى ما تعتبره القيادة الفلسطينية الشرعية في رام الله، فقد تبنت دعوة إيجابية إلى معاودة الحوار الفلسطيني على أساس أن ما حدث يظل صراعاً بين أشقاء مهما بلغت حدته. ولم تتخذ السياسة المصرية موقفاً عدائيا تجاه "حماس"، ولا اعتبرتها قوة معادية تهدد أمنها القومي رغم أنها ترى في سيطرتها على القطاع خطراً كامناً على هذا الأمن. ويعني ذلك تفضيل السعي إلى استيعاب هذا الخطر الذي تمثله "حماس"، وليس خوض معركة ضدها أو فتح مواجهة معها. ويختلف ذلك عن المنهج الذي اتبعته مصر تاريخياً تجاه "الإخوان" الفلسطينيين، الذين تنحدر منهم حركة "حماس"، حين كان قطاع غزة تحت الإدارة المصرية بين عامي 1948 و1967. فقد نظر نظام ثورة 1952 إلى "إخوان" القطاع باعتبارهم مصدر تهديد عندما دخل في صدام مع "إخوان" مصر عام 1954. ولم يفصل بأي مقدار بين المصريين والفلسطينيين المنتمين إلى حركة "الإخوان". ولا عجب في ذلك. فكان من الصعب على القيادة المصرية الشابة في حينه أن تفصل بين "إخوان" مصر وفلسطين لأن الارتباط بينهما كان قويا بحيث لا يمكن إغفاله. فقد نشأت الحركة "الإخوانية" في غزة وفلسطين عموماً، نتيجة تمدد "الإخوان" المصريين في العالم العربي، حيث اتجهوا، أول ما اتجهوا خارج مصر، إلى الأردن، ثم إلى فلسطين مباشرة. وقد روى عبد الرحمن خليفة، المراقب العام السابق لتنظيم "الإخوان" في الأردن، أن قادة "الإخوان" في مصر ذهبوا إلى بلاده للمرة الأولى عام 1934، وكان على رأسهم عبد الحكيم عابدين، صهر الإمام حسن البنا مؤسس الجماعة، والذي قام بالدور الرئيس في وضع ركيزة تنظيم "الإخوان" في شرق الأردن. وثمة ما يدل على أن زيارات "الإخوان" المصريين الخارجية شملت فلسطين أيضاً في تلك الفترة. وروى عبدالله أبو عزة أحد قادة "الإخوان" الفلسطينيين أن أول بعثة زارت فلسطين كانت في أغسطس 1935، وضمت عابدين أيضاً ومعه أسعد الحكيم. ولكن سعيد رمضان، زوج ابنة حسن البنا، هو الذي قام بالدور الأكبر في تأسيس التنظيم الفلسطيني بعد ذلك، ومعه كامل الشريف الذي كان مسؤولا عن نشاط "الإخوان" في العريش. وتم افتتاح أول فرع "إخواني" فلسطيني في القدس عام 1945، وتبعته فروع في مدن فلسطينية أخرى. ووفق رواية عبد الرحمن خليفة، فقد اتحد تنظيما الأردن وفلسطين عام 1946 لأن الوضع الجيو- سياسي فرض ذلك بعد أن حدث تداخل بينهما. وأدت مشاركة "الإخوان" في حرب 1948 إلى اكتسابهم رصيداً طيباً لدى الناس. غير أن ضم الضفة إلى شرق الأردن، ووضع غزة تحت إدارة مصر، فرض استقّلال نشاطات "الإخوان" في كل منهما. فقد ارتبط "إخوان" الضفة بالتنظيم الأردني الذي ركز على مسألة بناء الإنسان والمجتمع الإسلاميين بالأساس وأقام علاقة طيبة مع النظام الهاشمي، بينما ظل "إخوان" غزة حريصين على إعطاء أولوية لقضية فلسطين. وقد عاش "إخوان" غزة شهر عسل قصيرا مع نظام ثورة 1952 نتيجة علاقته الإيجابية مع جماعتهم في مصر. وازداد عدد أعضاء تنظيم "الإخوان" في غزة وانتعش دوره وأصبح لديه سبع شعب في الشجاعية والرمالي والقصيرات والبريج ودير البلح وخان يونس ورفح. لكن ما أن بدأ الصدام في مصر بين النظام و"الإخوان" حتى هبت العاصفة على التنظيم "الإخواني" الفلسطيني، وتعرض أعضاؤه للملاحقة والمطاردة. وسعى المستشار المأمون الهضيبي، الذي صار مرشداً عاماً بعد ذلك بعقود، إلى مساعدة "إخوان" غزة. فكان الهضيبي حينئذ قاضياً في قطاع غزة، حيث سعى قدر جهده إلى مساعدة "الإخوان" هناك والحد من الخسائر التي ترتبت على تبدل علاقة الإدارة المصرية في القطاع معهم. وتمكن تنظيم "إخوان" غزة من الصمود. ولم تمنعه الملاحقات وصعوبات العمل السري من العمل لضم "الإخوان" الفلسطينيين في عدة دول عربية، بدلاً من انضمامهم إلى تنظيمات "الإخوان" في هذه الدول. وكان الخوف من تداعيات تأسيس حركة "فتح" التي ظهرت إرهاصاتها في أواخر الخمسينيات، هو الدافع الرئيس وراء هذا التحرك، خصوصاً أن بعض الفلسطينيين المنشقين على "الإخوان" ساهموا بدور بارز في إنشاء تلك الحركة. وكانت البداية بإنشاء فرع لطلاب غزة "الإخوان" الذين يدرسون في القاهرة. ولكن تحرك تنظيم غزة هذا لم يشمل الضفة الغربية التي ظل "الإخوان" فيها ضمن التنظيم الأردني، على أساس أنهم يعتبرون مواطنين أردنيين من الناحية القانونية. وعندما أنهت حرب 1967 مشكلة السياسة المصرية مع إخوان "غزة"، الذين صاروا مع غيرهم من أبناء القطاع تحت الاحتلال الإسرائيلي، لم يكن أحد يتصور أن تتجدد هذه المشكلة ويعود "إخوان" غزة ليشكلوا تحدياً مباشراً للسياسة المصرية مرة أخرى في ظروف مختلفة في كل شيء فيما عدا الصراع بين الدولة و"الإخوان" في مصر. ولكنها حركة التاريخ العربي ذات الطابع الدائري فيما يبدو، إذ تتسم حركة العرب في مجملهم بأنها لا تسير في خط مستقيم بمقدار ما تأخذ شكلاً دائرياً وتعود في كثير من الأحيان إلى حيث كانت.