عندما ننظر إلى الوراء قليلاً تتبدى فضيحة "فاليري بالم" (عميلة وكالة الاستخبارات الأميركية التي تم الكشف عنها في تجاذبات حرب العراق) كأنها مسرحية هزلية من خمسة فصول انطوت الأربعة الأولى منها على قدر كبير من العبث، والخزي، فضلاً عن الممارسات الفاضحة، ولم ترفع العدالة هامتها سوى في الفصل الأخير. افتتح الفصل الأول، كما هي عادة المهازل السوداء دائماً، بمشهد طاؤوس يختال في مشيته ويحمل اسم "جو ويلسون" الخالي من أية جاذبية. فقد زعم "ويلسون" أنه لا دخل لزوجته بالرحلة التي قام بها إلى النيجر للتحقيق فيما سرب في وقت سابق عن مشتريات العراق المشبوهة من تلك الدولة، رغم أن ذلك يبدو بعيداً عن الحقيقة. وقد ادّعى أيضاً أن رحلته إلى النيجر أثبتت براءة العراق مما نسب إليه من محاولات شراء اليورانيوم، رغم أن تقريره الرسمي الذي رفعه إلى رؤسائه لم يشر إلى ذلك. وخلال وقت وجيز استطاع "ويلسون" تكريس حضوره في المسرحية كمهرج ضمن فرقة الأمن القومي باعتباره الشخصية المخادعة التي يُعتمد عليها في تغليف الحقائق وإخفائها عن الأنظار بحركات بهلوانية تبقيها بعيداً عن الأبصار. ولم يكن للدور البسيط والمجهري الذي اضطلع به "ويلسون" في مجمل هذه الدراما المسرحية ليستأثر باهتمام الجمهور لو لم تقم الشخصية الشريرة في المسرحية-نائب الرئيس-بإظهار ما في جعبته من مواهب فذة في الانتقام والتدمير. ثم رفعت الستارة عن الفصل الثاني لتزدحم منصة العرض بالآلاف من الشخصيات تتعالى أصواتهم بالصخب المعبر عن الاستياء. ولعلكم تتذكرون تلك الأيام التي بدت فيها قصة "بالم" وكأنها فضيحة حقيقية مرتبطة بكشف اسم عميلة في الـ"سي.أي.إيه"، ولعلكم تتذكرون أيضاً صرخات الغضب والاستياء التي خرجت من أصدقائنا الليبراليين وخوفهم على الأمن القومي، ومحاولات البيت الأبيض للانتقاص من قدر خصومه. وربما تتذكرون المراقبة اللصيقة التي أحاطت بها وسائل الإعلام تحركات "كارل روف"، والصور التي التقطت له وهو ذاهب، أو عائد من هيئة المحلفين، فضلاً عن الأصوات المتشنجة الصادرة عن مخرجي المسرحية والداعية إلى إدانة "روف" اليوم قبل الغد. وقد تظاهرت بعض وسائل الإعلام بأنها مصدومة حقاً لفكرة تسريب اسم عميلة وكالة الاستخبارات المركزية، أو الكشف عن معلومات سرية إلى درجة أنهم باتوا مستعدين لمسامحة الادعاء العام في القضية "باتريك فيتزجيرالد" على ملاحقته للصحفيين ورميهم في السجن. لكن ذلك كان في وقت سابق عندما اعتقد الجميع بأن "كارل روف" هو المسؤول عن تسريب اسم "بالم"، وقبل أن يتبين بأنه ليس من كشف الاسم، وبأن من قام بذلك هو "ريتشارد أرميتاج"، نائب وزير الخارجية كما كان "فيتزجيرالد" يعرف منذ البداية. ومع بدء الفصل الثالث من المسرحية لم يعد أحد مهتما بفضيحة تسريب اسم عميلة لـ"سي.أي.إيه". ويبدو أن ذلك الجزء المهم من الفضيحة اختفى وضاع في حمأة الضجيج، وكل ما بقي هو "جو ويلسون" وزوجته "فاليري بالم" بالإضافة إلى صورهما في المجلات والجرائد. الفصل الثالث كان فصل الحنث بالقسم، لينتقل الاهتمام من تسريب معلومات إلى موضوع آخر مرتبط بشخصية "سكوتر ليبي". وعلى غرار "جو ويلسون" الذي كان رجلاً عبثياً يحمل اسماً عادياً، كان "سكوتر ليبي" رجلا عادياً يحمل اسماً عبثياً. والشيء الآخر الذي ميز "ليبي" هو أنه كان الرجل الوحيد العاقل في مستشفى المجانين، فالأشخاص الذين عرفوه يقرون بأنه رجل كتوم ونزيه ويحظى بالاحترام والتقدير. ومع ذلك أُشهرت التهم تباعاً في وجهه وتجمعت سحب الغباء فوق رأسه مرة أخرى. "الجمهوريون" الذين تملكهم غضب عظيم وأخرجوا حنقهم بشتى الطرق عندما كذب "بيل كلينتون" تحت القسم صدموا لما يتعرض له "ليبي" المسكين من هجوم بسبب كذبه تحت القسم. و"الديمقراطيون" الذين احتجوا في السابق على مهاجمة "بيل كلينتون" على شيء تافه مثل الحنث بالقسم، كادوا ينفجرون غضباً على "ليبي" بسبب جريمة الحنث العظيم تحت القسم التي اقترفتها يداه. أفليست هذه مسرحية للخزي والعار أخرجت الاحترام من العرض، وتركت العبث سيداً وحيداً لا يُجارى؟ وفي الفصل الرابع، يطالعنا مشهد المحاكمة والنطق بالقرار. والحق أن ما تميز به من نزاهة واستقامة جعله مخالفاً تماماً للفصول السابقة! فقد طالب المدعي العام "فيتزجيرالد" الذي لعب دور المحقق العنيد بإنزال عقوبة قاسية ضد "ليبي" نظير الجرائم التي لم يُدن بها بعد. أما القاضي الذي فضل لعب "دور النبي داوود ضد عدوه جالوت"، فقد أبان عن قدرة فائقة في الحديث عن نفسه. وأخيراً جاء الفصل الخامس والأخير من المسرحية يوم الاثنين الماضي ومعه حلت المفارقة العجيبة. فـ"سكوتر ليبي" الذي كان أقل الشخصيات عبثاً في الدراما الهزلية كلها كان الرجل الذي ارتكب الجريمة. أما الرئيس بوش فقد دخل المسرحية وكأنه شخصية تنتمي إلى عالم آخر، عالم تكتسي فيه الأشياء بعض المعنى وتعود الأمور إلى جادة الصواب. فقد كان قراره بتخفيف عقوبة "ليبي" دون إلغاء إدانته صحيحاً وصائباً، وهو قرار يعاقبه على الحنث بالقسم، لكن لا يعاقبه على المسرحة السريالية التي نمت من حوله فابتلعته. كما أن القرار يقضي على مشواره المهني، لكن لا يحرمه من عائلته. وبالطبع سيستمر المتفرجون في الصراخ، فذلك هو الدور المنوط بهم في هذه المسرحية السياسية. فقد دخلوا وهم يصرخون وسيخرجون وهم يصرخون، والشيء الوحيد الحقيقي في كل هذه المسرحية أن أصواتهم كانت جزءا من عملية مفبركة منذ البداية. ــــــــــــــــــ كاتب ومحلل سياسي أميركي ــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"