عندما وضع الرئيس الأميركي السابق "بيل كلينتون" خطة تهدف إلى تعميم التغطية الصحية على عموم الأميركيين عام 1994، تعرضت خطته لهجوم شرس من قبل شركات التأمين الصحي باعتبارها محاولة لسيطرة الحكومة على النظام الصحي في الولايات المتحدة. ونتيجة لتلك الحملة المناهضة انهارت خطة "كلينتون" حتى قبل أن تصل إلى مجلس الشيوخ في الكونجرس الأميركي. ومنذ ذلك الوقت يتجنب المدافعون عن إصلاح نظام الرعاية الصحية في أميركا الاقتراب من صناعة التأمين لما لعبته من أدوار حاسمة في إفشال الإصلاحات السابقة. لكن رغم ذلك بدأت الهدنة بين الطرفين تتلاشى في ظل النقاش الدائر حالياً بين السياسيين من الحزبين في واشنطن حول كيفية التعامل مع التحديات المتشعبة لمراقبة الأسعار، وتحسين جودة الرعاية الصحية، فضلاً عن توفير التأمين الصحي لحوالي 45 مليون أميركي خارج دائرة الرعاية الصحية. وفي خضم النقاش المحتدم والاقتراحات المطروحة، يبرز سؤال مهم تتعين الإجابة عليه قبل الدخول في أية مقاربة لإصلاح النظام الصحي في أميركا؛ متمثلاً في الدور الذي ستضطلع به شركات التأمين في أي نظام صحي جديد في المستقبل، لاسيما أنها تؤمّن الرعاية الصحية لثلاثة أرباع الأميركيين المشمولين بالتغطية. وفي هذا السياق تظهر ثلاث إجابات تتمحور جميعها حول تنظيم تلك الشركات، أو تحريرها، أو إزالتها نهائياً. وهكذا يسعى المنادون بإزالة شركات التأمين الصحي، بمن فيهم المخرج "مايكل مور" الذي أوضح هذه النقطة في فيلمه الأخير "سيكو"، إلى الاستعاضة عن الشركات الخاصة بنظام تديره الحكومة ويتولى الإنفاق على الاحتياجات الصحية للمواطنين. ويقوم الحل القائم على التخلص من الشركات الخاصة، على تعاقد الحكومة مع المستشفيات والأطباء وتسديد جميع التكاليف الصحية. وقد أصبح النقاش حول هذه المقاربة معروفاً، إذ في الوقت الذي يرى فيه بعضهم أنه سيوفر المال ويطور الرعاية من خلال استبعاد عامل الربح، يرى بعضهم الآخر أن هذه المقاربة تقصي الإبداع وتشجع على البيروقراطية. وبصرف النظر عن الحماسة التي تثيرها فكرة التخلص من شركات التأمين الخاصة وتولي الحكومة دورها، فإنها تظل مع ذلك على هامش الحراك السياسي. إذ رغم الاستقطاب الذي تحدثه الفكرة لدى أقطاب اليسار، فإن مسألة استبدال شركات التأمين الخاصة بالحكومة، مازالت إلى حد الآن فكرة خارج التجربة الأميركية. وليس غريباً أن يعتبرها أشد المدافعين عن إصلاح النظام الصحي، ميتة من الناحية السياسية قبل حتى أن ترى النور. وإدراكاً منهم لهذه الحقيقة، انحاز مرشحو "الحزب الديمقراطي" في الانتخابات الرئاسية إلى الحل الثاني القائم على تنظيم القطاع الصحي وفرض بعض الضوابط على الشركات الخاصة تتيح لها الاستمرار في العمل، لكن تحت قوانين جديدة. وبالطبع لا تصل التنظيمات الجديدة التي يسعى المرشحون الحاليون إلى إقرارها مستوى القيود التي فرضها الرئيس الأسبق "بيل كلينتون" على شركات التأمين الصحي. وهي القيود الشاملة التي امتدت إلى التفاصيل مثل تحديد الزيادة السنوية في سعر بوليصة التأمين، ما أثار استياء الشركات وعجّل بانهيار خطته. ويحرص القادة "الديمقراطيون" هذه المرة على تجنب أي صدام مع شركات التأمين الخاصة من خلال طرح أفكار "تسمح للسوق بالعمل، لكن مع بعض القواعد والتخلي عن القول بأن الحكومة ستتخذ جميع القرارات"، كما يعبر عن ذلك "رون بولاك"، المدير التنفيذي لإحدى شركات التأمين الأميركية. وعلى سبيل المثل يسعى كل من "باراك أوباما" و"هيلاري كلينتون" و"جون إدواردز"، إلى الدفع بشركات التأمين نحو الاستثمار أكثر في برامج الوقاية والتنسيق الصحي للأمراض المزمنة عبر الضغط على الشركات التي تروج لخدماتها لدى الموظفين الحكوميين بتوفير تلك الخدمات للمنخرطين. وأكثر من ذلك، اقترح المرشحون الثلاثة قواعد جديدة تمنع شركات التأمين من طرح خدماتها على أساس السجل الصحي للمنخرط، بل اقترح "أوباما" و"وإدواردز" الحد من أرباح الشركات عبر إنشاء خطة حكومية للرعاية الصحية تنافس الشركات الخاصة. غير أن هذه الأفكار من شأنها إرغام شركات التأمين على خفض سقف منافستها والتقليل من المخاطرة عبر قصر تغطيتها على بعض الأمراض البسيطة وتجنب الخدمات الطبية باهظة الثمن. أما مرشحو الحزب الجمهوري في الانتخابات الرئاسية، فقد اختاروا المقاربة الثالثة التي تدعو إلى تحرير الشركات وإطلاق يدها. ولا يعني ذلك أن "الجمهوريين" غير راغبين في إعادة هيكلة شركات التأمين الخاصة، لكنهم يعتبرون أن تحريرها يبقى الوسيلة الأمثل للرفع من المنافسة وخفض التكاليف. ومع أنه لا أحد من "الجمهوريين" صاغ خطة واضحة المعالم تشير إلى التفاصيل، فإنهم متفقون إجمالاً على أنه لكي تتمكن الشركات من توسيع خدماتها وبالتالي تحقيق التغطية الصحية لكل الأميركيين، فإنه لا بد من رفع القيود وتحريرها. إلى ذلك يرى "الجمهوريون" أن السبب وراء إنفاق الأميركيين الكثير من المال على الرعاية الصحية إنما يرجع إلى تكلفتها البسيطة. وفي هذا الإطار كان الرئيس بوش قد اقترح ضمن برنامجه لإصلاح الرعاية الصحية إنشاء نظام يحصل بموجبه الأميركيون على التأمين فقط بالنسبة للتكاليف الطبية الباهظة، على أن يدبروا المصاريف الصحية العادية من خلال فتح حسابات خاصة تتمتع بامتيازات ضريبية. ومع أن شركات التأمين الصحي التزمت الصمت ولم تعلن رأيها في النقاش الدائر حول إصلاح النظام الصحي، إلا أنها عموماً تفضل الاقتراحات "الجمهورية" برفع القيود، وهي أيضاً متشككة إزاء مطالب "الديمقراطيين" الداعية إلى الاستثمار في برامج الوقاية ومعالجة الأمراض المزمنة، أو إنشاء نظام حكومي ينافس الشركات.