حظيت السياسة السورية الخارجية، والتي أرسى قواعدها الرئيس الراحل حافظ الاسد منذ أربعة عقود، بتقدير كبير من قبل كتاب ومحللين سياسيين عالميين وعرب. وجعل النظام من التفاف الأحزاب والقوى السياسية السورية جميعاً من حوله نقطة إجماع وطني لا يجوز المساس به أو تجاوزه. وقد قامت هذه السياسة عموماً خلال العقود الثلاثة الأخيرة، على التدخل القوي- السياسي والعسكري- في الشؤون الداخلية للبلدان أو الحركات الوطنية العربية والإقليمية، بدءاً من النزاع العراقي الإيراني، إلى النزاع الكردي التركي، مروراً بالنزاع الفلسطيني الإسرائيلي، واللبناني الإسرائيلي، وغيرها. فقد أعطت دمشق لنفسها الحق، باسم الالتزام القومي أحياناً وباسم المصالح الوطنية السورية أحياناً أخرى، في أن تكون طرفاً في النزاعات الداخلية العربية، وإذا لم تجدها، لم تتردد في اختلاقها وتوسيعها. لكن الإحباطات الكثيرة التي واجهتها دمشق في السنوات الماضية، زادت الشكوك في مدى الفائدة التي جنتها سوريا من تلك السياسة. ويسود شعور طاغ اليوم بأن هذه السياسة ربما تكون قد وصلت إلى نهاية طريقها. فبعد أن كان للتدخل في نزاعات داخلية عربية وإقليمية عائد إيجابي يؤمن لدمشق فوائد متعددة، استراتيجية أو اقتصادية أو سياسية، أصبح هو نفسه اليوم، بعد تبدل وجهة السياسية الأميركية الشرق أوسطية، سبباً في دفع سوريا إلى بؤرة صراعات الشرق الأوسط جميعاً، وجعلها موضوعاً رئيساً للنزاع. هذا هو الحال في ما يتعلق بعلاقة دمشق الاستراتيجية مع طهران، وتحالفها مع أطراف المقاومة الفلسطينية الرديكالية، العلمانية والإسلامية، وتمسكها بنفوذها الاستثنائي في لبنان، ودعمها العلني للمقاومة العراقية ضد الاحتلال الأميركي. ففي نظر العديد من العواصم الغربية، وليس الإدارة الأميركية فقط، أصبحت دمشق محور سياسة شرق أوسطية حاملة لمخاطر كبيرة. فهي متهمة بالتحالف مع منظمات إرهابية، أو على الأقل التلاعب بها من أجل تأكيد نفوذها وتوسيع رقعة مصالحها الوطنية. وباستثناء بعض الكتاب اليساريين الغربيين الذين يدفعهم عداؤهم الأيديولوجي والسياسي لسياسات واشنطن الهيمنية إلى إبداء تعاطف نسبي مع سياسة دمشق الخارجية، يكاد جميع المسؤولين في الدبلوماسية الدولية ينظرون إلى السياسة السورية الخارجية نظرة مليئة بالريبة. فهي إما أن تبدو لهم سياسة متهورة تفتقر للمعايير العقلانية والواقعية، أو أنها تسعى بالفعل إلى زعزعة الأمن والاستقرار في المنطقة بأكملها، في سبيل دفع التهديدات التي تواجهها أو تأكيداً لنفوذها بوسائل لا شرعية لدى جيرانها وعلى حساب مصالحهم الوطنية. لكن الدبلوماسيات الغربية ليست الوحيدة التي تنظر بعين الريبة إلى خيارات السياسة الخارجية السورية. فمثل هذه الريبة بدأت تخالج الرأي العام السوري ذاته. ولا يعني ذلك تشكيكاً مطلقاً بهذه الخيارات وإنما التساؤل -من وراء إعلان التأييد الظاهري لها- عما إذا كانت تنطوي دائماً على خيارات سليمة وناجعة. فمثلاً، هل كان دعم المقاومة الكردية الماركسية، أعني "حزب العمال الكردستاني"، خلال سنوات حكم الرئيس حافظ الأسد الطويل، ضد الحكومة التركية، مفيداً لسوريا؟ وهل كان لتأييد جميع أشكال المقاومة المسلحة في العراق، بكل ما انطوت عليه من تناقضات، وبصرف النظر عن منطلقاتها الفكرية ووسائل عملها وتقنياتها العسكرية، نتائج إيجابية أيضاً تخدم المصالح السورية العليا؟ وبالمثل، ما هي الفائدة التي جنتها دمشق من تشجيعها الانقسام داخل الحركة الوطنية الفلسطينية، واختيارها الوقوف إلى صف التيارات الرديكالية الفلسطينية، من "الجبهة الشعبية" بشقيها، وصولاً إلى حركة "حماس" منذ التسعينيات، ضد ياسر عرفات وحركة "فتح"؟ وهل أعطى التحالف مع إيران وبالتالي مع "حزب الله" في لبنان، فوائد لدمشق تفوق تلك التي كان يمكن أن تجنيها من خيار توثيق الروابط مع المنظومة العربية؟ تتلخص إجابات أنصار دمشق في نظريتين متباينتين تشكلان في الوقت ذاته تأويلين لهذه السياسة نفسها. الأولى ذات سمة واقعية تفيد بأن هذه السياسة هي التي ضمنت ولا تزال تضمن لسوريا أوراقاً إقليمية أساسية من أجل العمل والمبادرة على ساحة الشرق الأوسط. ومنها استمدت نفوذاً كبيراً في المنطقة، وتحولت إلى دولة فاعلة ومؤثرة يخشى جانبها، بعد أن كانت في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، موضوع نزاع بين الدول الأخرى العربية وغير العربية. وهذا يعني أن النفوذ الذي يؤمّنه التدخل في قضايا الدول المجاورة هو السند للدفاع عن المصالح السورية الوطنية، وأن أي تراجع عنه يعني المغامرة بتعريض هذه المصالح للخطر. وربما كان أولها المصالح الأمنية. وضمن هذا المنظور من الطبيعي أن لا تثير النزاعات التي تتفجر حول سوريا، قلقاً كبيراً لدى القيادة السورية، بل بالعكس فهي تؤكد بالنسبة لها صحة خياراتها، وتعتقد اليوم أكثر من أي يوم مضى أن أفضل وسيلة لدفع ضغوط أعدائها الخارجيين ومنعهم من اللعب بالساحة الداخلية، هي تكثيف الضغوط عليهم، مباشرة أو من خلال حلفائهم المحليين واللعب في ملعبهم. وأن أفضل وسيلة لنيل السلام والهدوء والراحة في الداخل، هي إنهاك الآخرين وحرمانهم من الاستقرار. أما النظرية الثانية فهي من طبيعة عقائدية مناقضة تماماً للأولى. فهي ترى في التدخل السوري تجسيداً لوفاء دمشق لمبادئها القومية والوطنية التقدمية. ومن هذا المنظور ليست الجهود التي تبذلها سوريا للبقاء في قلب الشؤون الداخلية العربية، استثمارات سياسية واستراتيجية تهدف إلى الحصول على مكاسب استراتيجية أو اقتصادية أكبر، وإنما هي تضحيات يقوم بها السوريون لإيمانهم بالقيم الوطنية والقومية، ودفاعهم عن استقلال العرب وحريتهم وكرامتهم. وفي هذه الحالة لا بأس في أن لا تكون لهذه السياسة عوائد حقيقية، من أي نوع كان. فهي ليست مقصودة لفوائدها وإنما هي واجب يقع على السوريين ولا يمكنهم تركه أو تجاهله من دون أن يفقدوا مبرر وجودهم السياسي والعقائدي معاً. والسؤال الذي يطرح اليوم، ونحن على أعتاب حرب إقليمية وحروب طوائفية منظورة وغير منظورة، يشكل التدخل السوري أحد ذرائعها ومبرراتها، هل كان الانخراط في النزاعات الداخلية للأقطار العربية، سواء جاء استجابة لمراكمة أوراق ضغط استراتيجية أو تحقيقاً لعقيدة قومية، الخيار الوحيد الممكن لبناء استراتيجية سورية وطنية، أم كان من المحتمل الوصول إلى الأهداف ذاتها بالطرق الدبلوماسية وأساليب التفاوض السياسية؟ وهل ساعدت هذه التدخلات في النزاعات الداخلية العربية والإقليمية في تحقيق المصالح السورية أو تحقيق جزء منها، أم عملت بالعكس على إبعاد دمشق بشكل أكبر عن إمكانية إيجاد الحلول لمشاكلها الوطنية؟ والجواب على هذين السؤالين يفترض منطقياً الإجابة على سؤال سياسي أوْلي يتعلق بتعريف المصلحة الوطنية السورية، وتحديد ما إذا كانت مصلحة نوعية واحدة أم مصالح متعددة ومتباينة في سلم الأهمية والأولوية. وهو موضوع مقال آخر.