عندما تمعن النظر في قمة شرم الشيخ الأخيرة سوف تجد أنها كانت قمة غريبة بكل ما في الكلمة من معنى. ومع ذلك جاءت منسجمة مع السياق العام للأحداث. كان انقلاب "حماس" في غزة حدثا كبيرا، وقد يتحول إلى خطيئة. وبالتالي ليس غريباً أن تتضافر جهود الدول المجاورة لمواجهة هذا الحدث. لكن يبقى أن هذا التضافر انتهى إلى قمة فيها من عناصر الغرابة ما يترك ظلالاً كثيفة حولها كونها جاءت كرد فعل على ما حدث في غزة: ثلاث دول (دولتان عربيتان، ودولة يهودية) مع السلطة الفلسطينية في مواجهة "حماس" بمفردها. هل يتطلب الأمر كل هذا الاستنفار؟ هل أصبحت هذه الدول الثلاث زائد السلطة الفلسطينية في حالة من الانسجام والتناغم إلى درجة أنهم يشكلون حلفاً ضد "حماس"، والتيار الذي تمثله؟ وجه الغرابة ليس هنا فقط، بل في حقيقة أن هذه القمة عقدت لدعم حكومة الطوارئ التي شكلها رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، في الضفة الغربية، مقابل حكومة "حماس" في غزة. هل حقيقة أن حكومة إسرائيل معنية بدعم حكومة أبو مازن؟ من يعتقد بذلك إما واهم وجاهل بحقيقة الوضع في المنطقة، وبحقيقة الصراع، أو يمارس عملية سياسية يائسة. الأكيد والمعلن حالياً أن حكومة إسرائيل معنية بتدمير حكومة "حماس". وهذا ليس جديداً. لكن من المستحيل ترجمة ذلك إلى دعم لحكومة أبو مازن. حتى قبيل اندلاع الانتفاضة الأولى أواسط ثمانينيات القرن الماضي، وقبل اتفاق أوسلو، كانت الحكومة الإسرائيلية ذاتها، تعتبر حركة "فتح" بقيادة عرفات حينها مصدر التهديد الأكبر بالنسبة لها. ومن هنا سمحت لحركة "حماس" بالتمدد والنمو في القطاع. منحت التراخيص للمدارس الإسلامية، وللنوادي الرياضية، وللمؤسسات الخيرية التابعة لـ"حماس". كان هدف الحكومة الإسرائيلية إيجاد قوة موازية لحركة "فتح". الآن تقوم سلطة "فتح" بسحب وإلغاء هذه التراخيص، وفقاً لصحيفة الـ"واشنطن بوست" الأميركية. بعبارة أخرى، بدا الأمر وكأن التوازن والصدام المطلوبين بدآ يفعلان فعلهما بين التنظيمين الفلسطينيين. لكن مع الوقت "حماس" أخذت تتجاوز مرحلة التوازن: السيطرة على الشارع، ثم الفوز بالانتخابات التشريعية. وأخيراً استولت عسكرياً على القطاع بأكمله. كيف حدث ذلك؟ حسب المصادر الفلسطينية قبل غيرها كان السبب واضحاً: أولا انتشار الترهل والفساد داخل "فتح" بعد توليها السلطة على أساس من اتفاق أوسلو، وثانياً تصميم إسرائيل على إفشال "فتح" وسلطتها. عندما قررت "فتح" بقيادة عرفات دخول ما يسمى بـ"عملية السلام" من بوابة أوسلو، والاعتراف بحق إسرائيل في الوجود، كانت تأمل بأن ذلك سيؤدي إلى الاتفاق على ما يعرف بالقضايا النهائية: الحدود، والقدس، وحق العودة، والمياه، والسيادة. وبالتالي إقامة الدولة الفلسطينية التي طال انتظارها أكثر من نصف قرن. لكن إسرائيل كانت تأمل وتعمل على شيء آخر: إدامة الاحتلال، ومنع قيام دولة فلسطينية بجوارها، والاستمرار بقضم الأراضي الفلسطينية، وتهيئة الظروف (من خلال هدم المنازل، ومصادرة الأراضي، ونشر الحواجز، والاغتيالات، والحصارات المردوفة بالاجتياحات الدورية للمدن) لتهجير أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين. لا تريد إسرائيل حرمان الفلسطينيين من حق العودة فقط، بل تريد فوق ذلك تهجير ما يمكن تهجيره ممن تبقى منهم في الأراضي المحتلة. داخل هذه المعادلة كانت "فتح" تبدو مع الوقت الطرف الخاسر بامتياز. طرف قامر كثيراً برصيده الكبير، من دون أن يحصل على مقابل. هذا في أحسن الأحوال. في أسوئها كانت صورة "فتح" الثورة تأخذ ظلال الطرف المغلوب على أمره الذي يجد نفسه مرغماً على التعاون. لم تكن قيادة "فتح" منذ أبو عمار وحتى الآن تملك شيئاً إلا الأمل والمسايرة: مسايرة المصريين والأردنيين، ومعهم الإسرائيليين. أصبحت "فتح" متورطة في عملية سياسية أسمها "عملية السلام"، لكنها لا تملك من أمر هذه العملية الكثير. نعم لا تزال كتائب الأقصى الفتحاوية جزءا من النضال العسكري ضد الاحتلال، لكنها في الأخير كتائب مرتهنة للخط السياسي للقيادة. في هذا الإطار تحديداً يأتي حديث هاني الحسن، أحد أبرز قيادات "فتح"، إلى محطة الجزيرة، عن أحداث غزة. حسب هاني انتهى الأمر بـ"فتح" أن أصبحت منقسمة على نفسها. هناك تيار وطني ذكر هاني بعض رموزه مثل زكريا الآغا وأحمد حلس في غزة. هذا التيار لم يشترك في أحداث غزة. التيار الآخر داخل "فتح"، حسب هاني، يقوده النائب ورجل الأمن محمد دحلان. هذا التيار مرتبط بالأميركيين والإسرائيليين. والحقيقة أن هذا التصنيف ليس جديداً، بل يبدو أنه منتشر بين الفلسطينيين في الداخل والخارج. من كلام هاني الحسن وغيره من الفلسطينيين، يبدو أن دحلان متورط في مخطط أميركي إسرائيلي لإسقاط حكومة "حماس". حتى الصحافة الإسرائيلية تعرف عن هذا الانقسام داخل "فتح"، وتكتب عنه باستمرار. انطلاقاً من ذلك يصور هاني الحسن ما حصل في غزة على أنه صدام بين "حماس" وتيار دحلان، وليس بين "فتح" و"حماس". هذا يعني أن استيلاء "حماس" على غزة لا يمثل هزيمة لـ"فتح". على العكس، يؤكد الحسن بأن ما قامت به "حماس" قبل أسبوعين في غزة كان عملية إفشال لما أسماه بـ"مخطط دايتون"، الجنرال الأميركي الذي يقيم في القدس منذ فوز "حماس" بالانتخابات التشريعية. هدف المخطط هو إفشال حكومة "حماس" بهدف إسقاطها. منطقياً، وبناء على ذلك فإن ما قامت به "حماس" في غزه لم يكن عملية انقلاب، بل عملية إنقاذ للوضع. وحسب المنطق ذاته، لابد من التخلص من تيار دحلان داخل "فتح". ما جاء على لسان هاني الحسن، وغيره من الفلسطينيين يتفق كثيراً مع ما قاله مساعد الأمين العام للأمم المتحدة السابق، "الفارو دي سوتو" الذي استقال من منصبه في مايو الماضي. كان "دي سوتو" أيضاً منسق الأمم المتحدة الخاص بعملية السلام في الشرق الأوسط منذ مايو عام 2005. يقول "دي سوتو" في تقرير رفعه الشهر الماضي إلى الأمين العام بعد انتهاء خدمته التي استمرت ربع قرن، "من الواضح أن مسؤولين أميركيين كانوا يدفعون باتجاه صدام بين فتح وحماس...". وينقل عن ممثل أميركي قوله حول أحداث غزة: "أفضل هذا العنف، لأنه يعني أن هناك أطرافاً فلسطينية تقاوم حماس..."، ويتهم "دي سوتو" الأمم المتحدة، وتحديداً أمينها السابق كوفي عنان، وأمينها الحالي بان كي مون، بتوفير الغطاء السياسي للجهود الأميركية بعزل "حماس". ويؤكد من خلال تعامله مع مجموعة "الرباعية الدولية" بأن انحياز هذه المجموعة لإسرائيل "أخذ يتزايد مع الوقت… إلى درجة أنها أعفت إسرائيل من كل الضغوط. وبالتالي مع بقاء التركيز حصرياً على نقاط الضعف لدى "حماس"، استمرت عمليات بناء الجدار العازل، وبناء المستوطنات الإسرائيلية من دون توقف". هذه المقتطفات مأخوذة من تقرير دي سوتو، ونشرت في صحيفة الـ"الواشنطن بوست" الأميركية (الموقع الإلكتروني، 14 يونيو). في هذا الإطار جاءت قمة شرم الشيخ. قمم شرم الشيخ معنية دائماً باهتمامات ومصالح إسرائيل. لم تنجح في ذلك حتى الآن. في عام 1996 كانت القمة تهدف إلى دعم شيمعون بيريز في الانتخابات، وفشلت. حظوظ القمة الأخيرة في النجاح محدودة جداً. ستنجح في شيء واحد، زيادة المعاناة الفلسطينية، وذلك انسجاماً مع ما أسميه بـ"استراتيجية الجدار الحديدي" الإسرائيلية. وجه الغرابة يبقى كما هو. والأغرب من كل ذلك أن شرعية طرف عربي، السلطة الفلسطينية، أصبحت في حاجة إلى دعم إسرائيلي. مما يعني أن الطرفيين العربيين، الأردن ومصر، لم يعد في مقدورهما توفير هذا الدعم لشرعية السلطة الفلسطينية. هل يؤخذ ذلك على أن فاقد الشيء لا يعطيه؟ أم أن الفشل المتواصل لـ"عملية السلام" لم يترك لهاتين الدولتين من قدرة في التأثير على الأحداث، دع عنك دعم شرعية الآخرين؟ مهما يكن قد تمثل قمة الشرم تدشيناً لدور إسرائيلي في المنطقة من خلال بوابة عربية. حتى قمة شرم الشيخ كان العرب يشتكون من نمو الدور الإيراني، فإذا بهم يشكلون رافعة ليس فقط لنمو دور إقليمي إسرائيلي، بل ومنحه شرعية عربية. لم تكتف مصر والأردن بتوفير غطاء عربي لتنازلات السلطة الفلسطينية. الآن توفران الغطاء نفسه لأن تكون إسرائيل مصدراً لدعم شرعية السلطة الفلسطينية؟ هل لذلك علاقة برفض العاهل السعودي اللقاء بأبو مازن في الأردن الأسبوع الماضي؟