في عمود نُشر مؤخراً ويناقش العبر والدروس المستخلصة من حرب فيتنام وعلاقتها بما يجري حالياً في العراق لاحظ "هنري كيسنجر" أن سقوط جنوب فيتنام جاء نتيجة قطع الولايات المتحدة لمساعداتها العسكرية حتى في الوقت الذي "لم يحارب فيه جندي أميركي واحد لأكثر من عامين". وأضاف "كيسنجر" محللاً الوضع في فيتنام وأسباب السقوط قائلاً: "لقد تجاوزت متطلبات النقاش الداخلي في أولويتها ضرورات الجغرافيا السياسية". لكن بينما كانت الولايات المتحدة توقف مساعداتها لجنوب فيتنام واصل الاتحاد السوفييتي إمداداته العسكرية للجزء الشمالي المتحالف معه. والواقع أن ما جرى وقتها لم يكن ضمن الخطط الأميركية التي أعقبت اتفاقات باريس للسلام عام 1973، حيث تعهدت واشنطن بالاستمرار في تقديم دعمها اللوجستي، والإبقاء على الالتزام الأميركي حتى يصل الجزءان الشمالي والجنوبي من فيتنام إلى اتفاق سلام يوقف الأعمال العدائية بينهما. غير أن الولايات المتحدة فشلت في الوفاء بتعهداتها وعجزت عن مواصلة دعم الجنوبيين الذي بدونه لم تكن لهم أدنى فرصة في النجاح. ومن الضروري هنا أن أضع الأمور في سياقها حتى يتسنَّى الاستيعاب والفهم. فبعدما توليت منصب وزير الدفاع في إدارة الرئيس نيكسون سنة 1969 قمت إلى جانب الجنرال "جيرتون أبرامز" بوضع برنامج لسحب القوات الأميركية بمساعدة فريق عمل منكب على شؤون فيتنام أنشأته في وقت سابق. وبحق كان الجنرال "أبرامز" الرجل الذي اعتمدت عليه في فيتنام طيلة الفترة التي قضيتها على رأس وزارة الدفاع. وقد أطلقت على الخطة اسم "الفتنمة"، وبدأت فعلاً سحب القوات خلال ستة أشهر من دخولي وزارة الدفاع بموازاة ما يتحقق على الميدان من تحسن ملموس وحقيقي في جاهزية قوات جنوب فيتنام بعد إخضاعهم لتدريبات مكثفة حدد أهدافها الجنرال "أبرامز" نفسه. وهكذا بدأنا الإعلان عن خطط الانسحاب كلما وصلنا إلى مستويات متقدمة من الجاهزية وتحققت الأهداف المرسومة بتوجيهات من الجنرال "أبرامز" الموفقة. وأخيراً أدرك المسؤولون في جنوب فيتنام أن الكرة أصبحت في ملعبهم، وأنه لن تكون هناك زيادة أخرى في عدد القوات الأميركية، بل من الآن فصاعداً سيتم الحديث فقط عن خفض القوات. وفي هذا الصدد أوضحت على نحو مباشر لرئيس فيتنام الجنوبية "نجويين فان تييو" خلال لقاء جمعني به مطلع العام 1969 أنني لن أوافق أبداً على طلب الجنرال "ويليام وستمورلاند" بإرسال 150 ألف جندي إضافي إلى فيتنام. وأذكر أنه، بطلب مني، رافقني كل من الجنرال "أبرامز" والسفير "إلزورث بانكر" إلى الاجتماع، وبعد انتهائنا لامني السفير على لهجتي القاسية التي كلمت بها رئيس جنوب فيتنام، وأبلغ ذلك إلى وزارة الخارجية. لكن مهما كان موقف البيت الأبيض ووزارة الخارجية وسواء أدركا ذلك، أم لم يدركا، فقد كان الكونجرس الأميركي واضحاً في عدم رغبته الاستمرار في تمويل الجنود الأميركيين، أو التعامل مع أنباء الضحايا التي لم تتوقف. وقد طمأنت قادة اللجان البرلمانية سواء من "الديمقراطيين"، أو "الجمهوريين"، المسؤولة أمامها وزارة الدفاع، أنه لن يبقى جندي أميركي واحد في فيتنام عند انتهاء فترة خدمتي بعد أربع سنوات. وفي كل ذلك لم أقترح أبداً على أحد سواء في وزارة الدفاع، أو في اللجان البرلمانية بالكونجرس وقف المساعدات العسكرية بعد سحب قواتنا المسلحة، بل بالعكس من ذلك تماماً أبدى الكونجرس استعداده، بطلب من البنتاجون، للموافقة على جميع مقترحات الزيادة في ميزانية الدفاع، بما فيها المساعدات العسكرية المخصصة لجنوب فيتنام. ولم يوجد صوت واحد عارض المطالب التي تقدمت بها إلى الكونجرس طيلة فترة خدمتي في وزارة الدفاع، كما لم تمنع سيطرة "الديمقراطيين" على الكونجرس في تلك المرحلة تعاونهم معي بصرف النظر عن انتمائي إلى الحزب "الجمهوري". وقد بذل الجنرال "أبرامز" جهوداً كبيرة لتنفيذ خطط تدريب قوات فيتنام الجنوبية والرفع من استعدادها لتكون جاهزة مع اقتراب موعد بدء انسحاب القوات الأميركية. والدليل على ذلك أن تلك القوات المدربة تدريباً جيداً لم تخسر معركة واحدة منذ أن سحبنا جنودنا إلى أن قررت الحكومة الأميركية التراجع عن تعهداتها بمواصلة تقديم الدعم لجنوب فيتنام. وقد اكتست عملية "الفتنمة" أهمية قصوى للعديد من الرجال والنساء في الجيش الأميركي، فهي لم تكتفِ فقط بسحب 520 ألفاً من القوات البرية التي كانت منتشرة في فيتنام، بل خفضت أيضاً القوات البحرية والجوية وأعادت ثلثي الجيش الأميركي المشارك في حرب فيتنام إلى أرض الوطن، وهو الذي كان يصل قوامه إلى مليون جندي. وعلى نفس المنوال يتعين البدء في تنفيذ خطة لسحب القوات الأميركية على مراحل من العراق والكف عن تولي مسؤولية الأمن بدلاً من الحكومة العراقية. ولعل ما فاقم الوضع أكثر في العراق هو كثرة المسؤولين الأميركيين الذين أشرفوا عليه، فبعد أن جربنا في البداية مسؤولاً مدنياً له خلفية في الشؤون الخارجية أصر على تفكيك الجيش العراقي، قمنا لاحقاً بتغيير أكثر من جنرال، وحتى رئيس هيئة الأركان المشتركة، الذي لا يملك سلطة توجيه الأوامر، لم يفلت من الانتقاد ليتم اليوم تعيين "قيصر" الحرب في البيت الأبيض كمسؤول عن كل شيء متعلق بالعراق. والواقع أنه يتعين على وزير الدفاع فرض سلطته، لاسيما بعدما تبين أنه من غير الممكن إدارة الحرب ووضع الخطط، أو حتى استخلاص الدروس من البيت الأبيض، أو من مكتب نائب الرئيس. وعلينا ألا ننسى أيضاً، في خضم تخطيطنا للحرب، أن جميع أنواع الذخيرة في العراق، والمراجع العسكرية المستخدمة هي تابعة للجيش الأميركي، لذا لا مناص من استمرار مساعداتنا حتى بعد الانسحاب. ولا يمكن للسلطتين التشريعية والتنفيذية في هذه المرحلة التنصل من مسؤولياتهما والتراجع عن تعهداتهما في العراق كما فعلتا عام 1975. فعلى رغم معارضة العديد من الأميركيين للحرب على العراق منذ بدايتها، إلا أن الرهانات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي ينطوي عليها الشرق الأوسط تبوئه أهمية كبرى بالنسبة للمصالح الأميركية على المدى البعيد تفوق بكثير أهمية فيتنام السابقة. ميلفين ليرد ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وزير الدفاع الأميركي الأسبق في الفترة ما بين 1969 و1973 ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"