لا أدري لماذا تدفع القيادة الليبية فكرة الوحدة الأفريقية بهذه الطريقة التي تصل لرفع شعار "إما الوحدة الآن أو الموت؟" ولا شك أن أي متأمل في واقع القارة، أو واقع السياسات الأفريقية وهو يرى "الموات" بعيني رأسه في أنحاء العالم الثالث كله، يمكن أن يترجم من الآن فكرة لا ينقصها النيل والأمل، ولكنها تعاني من مرض الزمن الخبيث ولا نقول الرديء فقط. وقد كنت أظن أن الظروف الاحتفالية بالذكرى الخمسين لاستقلال "غانا" واحتشاد جميع "الأقاليم" الأفريقية وهي مستقلة "ستفرض" جواً احتفالياً بذكرى نبيلة لقول "كوامى نكروما" منذ أكثر من نصف قرن. إن استقلال "غانا"- وأي قطر أفريقي- لا يمكن أن يكون حقيقياً قبل استقلال كل أفريقيا، وعانى الرجل ما عاناه طوال عقد من استقلال "غانا" مقاتلاً مع نخبة مخلصة من أجل تحرير أكبر مساحة في القارة الأفريقية، حتى راحت يد الإمبريالية تتآمر ضده وغيره من الزعماء فأردوه بالانقلاب العسكري ضده 1966، كما قتلوا عبدالناصر بالعدوان على مصر 1967، وتتابعت الحلقة ضد "مودييو كيتا" وتدهور "سيكوتوري.. الخ.". ظننت أن الاحتفالية، ستتذكر هذه الدروس بعد تدهور منظمة الوحدة الأفريقية، ومعاناة الاتحاد الأفريقي، من فقر الإمكانيات وضغط السياسة الأميركية على مناطق تحركه في القرن الأفريقي، والصحراء الكبرى في دارفور والصحراء الغربية. وتصورت أن نخبة الزعماء الجدد، بحماس القيادة الليبية، ووعي الكثيرين من حولها، سيتعاملون مع تجربة طرح "الاتحاد الأفريقي" بوصفها بديلاً لمنظمة الوحدة الأفريقية نفسها وعلى الأرض الليبية عام 1999 – 2000. فمنذ قيام هذا الاتحاد لم تحل قضية، ولم تقم لمشروع حقيقي قائمة، وإنما تكاثرت مرة أخرى المؤسسات والهيئات، التي قلنا إنها قد تكون لفترة مساهمة مشكورة في إقامة البنية التحتية لمشروع مستقبلي يحتاج بدوره إلى عدة عقود، مثل قرينته منظمة الوحدة الأفريقية. ونشأت في الإطار الجديد أسماء طموحة كالمجلس التنفيذي، والبرلمان الأفريقي، ومجلس السلام والأمن الأفريقي، بل ومجلس الدفاع، ومحكمة العدل، والمجلس الاقتصادي والاجتماعي. لن نقول مع المتشائمين إنها كانت تحركات صورية لترضية هذا أو ذاك من الزعماء، ولن نشير لحجم الصراعات المدمرة التي تم حل بعضها بتدخلات أجنبية مباشرة مثل ليبيريا وساحل العاج و"منظمة البحيرات الكبرى" ثم "جنوب السودان" (نيفاشا) والصراع الأثيوبي- الأريتري. وعندما بلغ بعض الصراعات حد المستنقع مثل دارفور أو الصومال، رأينا ما هو جارٍ الآن من تجاهل للغزوة الأثيوبية في الصومال بدعم أميركي مباشر، أو ضباب لا حدود له في دارفور وعلى حدود السودان وتشاد. ورأينا التحفز الخطر في "الصحراء". ووسط هذا وذاك، تأتي إلى "أكرا" السيدة "سيرليف" رئيسية ليبيريا، بعد زيارة واشنطن لتعلن أن تشكيل الأميركيين للقيادة العسكرية لأفريقيا يعني اهتماما أميركيا حقيقيا بالقارة، مما يثير سعادتها. ولن نمعن في التشاؤم، ولكن دعنا نذكر بـ"نكروما" ثانية، الذي قد يتعامل في قبره الآن على بعد أمتار من مقر اجتماع القمة الأفريقية في أكرا! والذكريات تململ جسد نكروما، كما تململ جسد عبدالناصر نفسه في الذكرى الأربعين لنكسة 1967. فالبعض من حفاري القبول يتهمون الأول بالخيال غير القابل للتحقق، بينما "غانا" تفقأ عيونهم كأفضل بنية تحتية قطرية في زمن الانهيار على أرض القارة، والثاني متهم بــ "الاستبداد" الذي أضاع البلاد وكأن نعيم الديمقراطية يغرق من بعده الأقطار والعباد! في هذه الأجواء تدفع ليبيا -بالمطلق- فكرة الحكومة الواحدة لكل أفريقيا! نعم للاحتفالية التذكارية، ونعم لاستخلاص الدروس وبحث الآليات الجديدة اقتصادية وسياسية وثقافية، ونعم لمشاركة شعبية حقيقية تدرس الواقع والمشكلات وتدفع باستثمارات الأغنياء من الأفارقة هذه المرة - مادامت ليبيا أفريقية وحسب- فلتحفز إذن نيجيريا والجابون وأنجولا وجنوب أفريقيا، حتى تستغني بها شعوبنا الأفريقية، عن سؤال اللئيم، الذي يعلن من فوق كل منصة بقيادة بوش وبلير وغيرهما مبدأ (Trade not Aid) "التجارة لا المعونات"، ولا سيرة للتنمية أو دعم الجهود الذاتية. وهنا نعود لنذكر "نكروما" و"عبدالناصر" لمن يريدون التشبه بهما أي بكليهما، وعندما نتذكرهما وبكامل عقلنا وإخلاصنا للعمل الحقيقي من أجل الوحدة الأفريقية، فإنه يتوجب علينا تذكر أجواء "الهجمة الإمبريالية" التي أطاحت بأحلامهما، وهي ليست هجمة من الذكريات فقط للأسف، ولكنها حضور متكرر بأعتى ما يكون الحضور، حضور الواقع الاستعماري الجديد، على كل الأرض الأفريقية والعربية على السواء. وأحرى بمن يتحدثون عن الوحدة بالمطلق أن يبحثوا آليات التحرر الوطني مجدداً مثلما فعل نكروما وعبدالناصر، فهناك تحرير واجب في قضية "دارفور" من الضغط الأميركي المباشر لوجود دولي على أرض السودان بالقوة، دون أن نبذل معاً جهداً حقيقياً من أجل حكم ديمقراطي في السودان في نفس الوقت يواجه هذه الكارثة، وتحرير واجب لأرض "الصومال" بعون عربي فعال باعتبارنا قبلنا عضويته للجامعة العربية منذ1957 ترضية للقوى الاستعمارية نفسها، وتحريرا لتشاد من خطط الفرنسيين الرامية إلى جلب قوات دولية على حدودها مع السودان، ليس لحماية نظامها الموالي فقط، ولكن لحماية بترولها واليورانيوم في كل المنطقة من حولها، مثلما يفعلون في العراق، ثم تحرير المنظمات الإقليمية نفسها من أدوارها المرسومة لها مثل "الإيجاد" بقيادة كينيا"في شرق أفريقيا و"الإيكواس" بقيادة نيجيريا في غرب أفريقيا. مطلب التحرر الوطني وفق "نكروما" أو "ناصر"، هو المطلب الملح والقائم فعلاً، تدعمه مطالب جديدة. "قد يكون "نكروما" أو"ناصر" لنفسهما لم يعطياها الانتباه الكافي أو لم تسعفهما الظروف لإنجازها مثل الديمقراطية والمشاركة الفعلية وحقوق الإنسان، ولنتذكر عندئذ أن "نكروما" لم يحكم أكثر من عقد واحد من الزمان بل أقل "(57 ــ 1956) ولم يحكم عبدالناصر بالفعل ما يتجاوز عقدا ونصف ما بين (1956 ــ 1970) والمقارنة بالحاضرين ستكون محرجة بالتأكيد. ومع ذلك، فلنقل بنبل الهدف من تحقيق الوحدة الأفريقية، مهما تعددت الشعارات والأساليب تحت لوائها، بد ءاً من تفعيل الاتحاد الأفريقي القائم. والملفت أن القوى الكبرى في القارة، والقادرة على دفع عناصر الفكرة الرئيسية مثل نيجيريا وجنوب أفريقيا تبدي تحفظاً يعرض "الطرح" نفسه للخطر خاصة إذا صممت ليبيا على مبدأ "الآن أو الموت"، وكان ملفتاً أنه اعتبر "الاتحاد الأفريقي" الذي دفع فكرته من قبل بنفس الحمية كأنه آلة فاسدة لتحقيق الهدف الجديد، مع أن الأمر يتوجب التأتي والمناقشة العقلانية للموضوع وإطاره العام والخاص، خاصة أن الزعيم الليبي لابد أن يدرك مسؤوليته عن وضع شمال القارة العربي في هذه القضية، بينما المغرب تقاطع الاتحاد، والمغرب والجزائر معا يعوقان أحد نماذج الاتحادات الإقليمية وهو المغرب الكبير، والأوروبيون يناقشون ضم المغرب للاتحاد الأوروبي، والأميركيون يؤسسون للقيادة العسكرية الخاصة بأفريقيا، متحركين بالأطلنطي في شمال وغرب افريقيا، ولا نسمع اعتراض "قوى التحرر الوطني" على ساحل المتوسط الجنوب كله إزاء هذه التحركات الأميركية أو الأوروبية قبل سماع هتافات "الوحدة أو الموت".