الآية الرابعة والأخيرة التي يعتمدها القائلون بالنسخ في القرآن هي قوله تعالى: "وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً، وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآَيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ، يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ" (الرعد 38- 39). قد لا نحتاج هنا إلى الوقوف طويلاً مع هذه الآية، إذ من الواضح من السياق أنها جواب على ما ورد في آية سابقة تحكي تحدي قريش للنبي عليه الصلاة والسلام أن يأتيهم بمعجزة، كأن ينزل عليه كنز أو يأتي معه ملَك، ذلك في قوله: "وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ" (الرعد 7)، ويأتيهم الجواب في الآية نفسها "إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ". ثم تأتي الآيتان المذكورتان أعلاه (38- 39) لتقررا أن الله أرسل رسلاً قبل محمد صلى الله عليه وسلم، وأنهم لم يكونوا ملائكة ولا أناساً خارقين للعادة، بل كانوا كجميع البشر لهم أزواج وذرية ولم يكن في مقدور أي منهم أن يأتي بمعجزة أو ما في معناها إلا بإذن الله وفي وقت محدد سلفاً, وهذه الآيات/ المعجزات التي يأتي بها الأنبياء لإقناع أقوامهم، منها ما أثبته الله وقصَّه في رسالاته اللاحقة (كالقرآن)، ومنها ما لم يثبته. وهو يعلم هذا الصنف كما يعلم ذلك، لأن الكل مسجل في "أم الكتاب" وهو اللوح المحفوظ. وهكذا يتضح أن قوله "يمحو" لا علاقة له بالقرآن ولا بكون بعض آياته تنسخ أخرى. وليس هناك في السياق ما يسمح بإقامة مثل هذه العلاقة. ومع أن بعض المدافعين عن وجود النسخ في القرآن يستشهدون بهذه الآية ليصرفوا معنى "المحو" فيها إلى "النَّسخ" فإن جُل المفسرين يذهبون إلى مثل ما قلنا أو قريباً منه (انظر ما ذكره الطبري في تفسيره). ونحن مطمئنون إلى صواب وجهة نظرنا هذه لأن القرآن يشهد لها بالصحة في آية أخرى هي قوله تعالى: }وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ (فقصصهم وآياتهم بمعنى معجزاتهم مثبتة في القرآن) وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ (وقصصهم ومعجزاتهم لم تذكر) وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآَيَةٍ (معجزة) إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ، فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ{ (غافر 78). يتضح من جميع المقالات السابقة التي خصصنا لمسألة النسخ أنه لا دليل في القرآن على وجود النسخ فيه بالمعنى الفقهي وأن حجج القائلين به، المستندة على الآيات الأربع التي حلَّلناها في المقالات الأخيرة لا تدل على ما يريدون إثباته بواسطتها إلا إذا سلخناها من سياقها وضمَّناها ما نريد. وهذا غير جائز. فالقرآن، ولو أنه نزل منجماً مُفرّقاً حسب مقتضى الأحوال، فإن لآياته سياقاً كما أن لها أسباب نزول. والعمل بأسباب النزول يجب ألا يعتدي على السياق. فأسباب النزول، كما سنبيِّن بعد، هي في نهاية الأمر روايات آحاد، وأكثرها ظنون وتخمينات. أما السياق فشيء معطى من القرآن نفسه. وهو توقيفي، لأن ترتيب آيات القرآن في جميع سوره ترتيب توقيفي. فإذا كان لا يجوز تغيير هذا الترتيب فلا يجوز أيضاً إهماله. والقرآن يفسر بعضه بعضاً ليس بالكلمات والألفاظ بل بالمعنى والسياق. وواضح أنه يترتب على قولنا إنه لا دليل في القرآن على النسخ بالمعنى الفقهي، أنه ليس في القرآن الذي في المصحف آيات -أحكام أو أخبار- منسوخة، بمعنى أنها ألغتها آيات أو أحكام أخرى! كلا، ليس في القرآن ناسخ ولا منسوخ. كل ما هناك هو وجود أنواع من التدرج في الأحكام: من العام إلى الخاص، ومن المُطلق إلى المُقيَّد، ومن المُجمل إلى المُبيَّن، ومن المُبهم إلى المُعيَّن، هذا فضلاً عن ملاءمة الأحكام مع مقتضيات الأحوال، كأن يأتي حكم يراعي حالة المسلمين من الضعف أو غيره، ثم عندما تتحسن أحوالهم يأتي تعديل في نفس الحكم ليتلاءم مع المستجدات. وهذا لا يعني إزالة الحكم الأول ولا إبطاله بالمرة، وإنما يعني إعماله بصورة معدلة. وإذن فنحن لا ننكر وجود آيات تنطق بأحكام عممتها آيات نزلت بعدها، أو خصصتها، أو قيدتها، أو فصّلتها، أو عدلتها، أو أجلتها، أو رفعت عنها التأجيل... الخ! نحن لا ننكر هذا! وهل يصح ذلك والقرآن نزل منجماً وفق مقتضى الأحوال، أي حسب تغير الظروف والمصالح وشؤون الحياة عامة. وإذن فما ندعو إليه هو فقط الاستغناء عن مقولة "الناسخ والمنسوخ"، التي تجعل الناسخ يحل محل المنسوخ ويبطل حكمه، وكأن المنسوخ كان خطأ أو أن إرادة الله قد تغيرت! كلا، إن أحكام القرآن كلها قائمة أبداً، لا تعارض فيها ولا تناقض ولا تجدد، بل التعارض والتجدد قائمان في الأشياء والنوازل، وليس في أحكام القرآن؛ وعلى الإنسان أن يجدد فهمه للأحكام حتى تتلاءم مع المستجدات. وإنما نزل القرآن مفرقاً في مدى يزيد عن عشرين سنة لتكون أحكامه متلائمة مع تطور الحياة. وهو في جملته وتفصيله لا ناسخ فيه ولا منسوخ: }كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ (في منظومة كلية) ثُمَّ فُصِّلَتْ (عناصرها حسب مقتضى الأحوال) مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ{ (هود 1)، والقرآن، كليتُه ومفرَّقُه، واحد "لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيد" (فصلت 42). وقد ذم الله "الْمُقْتَسِمِينَ، الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآَنَ عِضِينَ" يأخذون ببعضه ويتركون الباقي (الحجر 90- 91) وتوعَّدهم، وهذا ليس خاصاً بالعمل والسلوك فحسب بل يشمل أيضاً جميع أنواع التعامل مع القرآن، ويأتي في المقدمة فهم القرآن. فكل فهم لم يُبْنَ على مراعاة السياقات واستقراء الآيات الخاصة بموضوع واحد هو كالوقوف عند "ويل للمصلين". ومع أن القائلين بالنسخ في القرآن لا يدخلون جميعاً ضمن مفهوم "الْمُقْتَسِمِينَ، الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآَنَ عِضِينَ" ، فإن إعمال بعضهم لآيات وإهمالهم لأخرى تتصل بالأولى، عن قصد أو غير قصد، تصرف مخالف للقاعدة الكلية القرآنية التي تؤكد على وحدته وخلوه من الاختلاف: قال تعالى: "أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا" (النساء 82)، والمفهوم أنه من عند الله وأنه ليس فيه اختلاف، لا ناسخ ومنسوخ. وإذا كان القرآن ينص على أن فيه "المحكم والمتشابه" فإنه لا علاقة لهذا التصنيف مع التصنيف إلى ناسخ ومنسوخ. فليس الناسخ في حكم المُحكم ولا المنسوخ في حكم المتشابه، كما سنبين ذلك في حينه. قد يتساءل بعض القراء وما الفائدة التي سنجنيها نحن أبناء القرن الحادي والعشرين من القول بعدم وجود النسخ في القرآن؟ والجواب أن الذي يطرح هذا السؤال قد يكون معذوراً لكونه غير مختص في المجال الذي نتحرك فيه وبالتالي فعليه أن ينتظر، لأن أي جواب الآن عن هذا السؤال سيكون قبل أوانه. أما أولئك الذين تستبد بهم "الأفكار المتلقاة"، فقد لا يستطيعون الانتظار لكونهم لا يختلفون في شيء -على صعيد المقارنة المنطقية على الأقل- عن أولئك الذين عنَّفهم القرآن مراراً وتكراراً لاحتجاجهم على ما أتى به من إصلاح وتجديد، بأن قالوا وكرروا القول: "إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ" (الزخرف 23)، و"قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا" (يونس 78)، والآيات في هذا المعنى كثيرة. ونحن لا نريد أن نخوض سجالاً مع أمثال هؤلاء، فالنقاش يكون مع العلماء وليس مع الذين "لا يعلمون" ولا يعلمون أنهم "لا يعلمون"، ولا مع الذين ليس لهم استعداد للنظر واستئناف النظر "فيما يعلمون". ملاحظة: كان من المقرر أن ننتقل بعد قضية النسخ إلى مسألة أسباب النزول. غير أننا سنرجئ ذلك إلى حين. لقد ارتأينا –بمناسبة المفاوضات التي ترعاها الأمم المتحدة حول قضية الصحراء المغربية، أن نخص هذه الجريدة بسلسلة مقالات نشرح فيها لإخواننا في المشرق أصول وفصول هذه القضية كما عشناها، بوصفنا أحد نشطاء الحركة الوطنية المغربية في الخمسينيات والستينيات، وأحد أطرها القيادية خلال السبعينيات من القرن الماضي، والمتتبعين لشؤونها إلى اليوم.