لا يزال الوقت مبكراً جداً للإعلان عن فشل زيادة واشنطن لعدد قواتها المحاربة في العراق. بيد أن الوقت لم يعد مبكراً للقول بأن ثمة مؤشرات على أن تلك الزيادة بدأت تحقق نجاحاً يستحق التثمين والإطراء. فأفضل ما حققته تلك الزيادة كونها منعت العراق من الانحدار الرأسي نحو هوة الحرب الأهلية الشاملة. وفي أفضل مثال، فإن عمل قواتنا هناك هو أشبه بالخوض في مياه نهر الفرات، ما يعني أنه لا يزال ينبغي علينا التفكير الجاد حول ما سيحدث، في حال تعين علينا الكف عن ذلك الخوض والخروج من النهر. والنقطة التي يجب أن نبدأ منها، هي أن نتحرى الأمانة والنزاهة في تحديد مواضع أقدامنا من مياه ذلك النهر. وحتى الآن، فإن الرئيس جورج بوش لا يزال يتحدث عن العراق بصفته دولة طالما تطلعت أغلبية مواطنيها إلى العيش في وئام وسلام، وإلى أن تنعم بلادهم بالحرية والديمقراطية. وفي المقابل، فإن هناك حفنة قليلة من الإرهابيين وبقايا فلول "البعث" المندحرين، هم من يقفون حجر عثرة أمام التحول السلمي الديمقراطي للعراق. وكم كنت أتمنى لو أن التصوير الذي يقدمه بوش عن ذلك البلد صحيحاً. ولئن كان الأمر كذلك، فلماذا فشلنا نحن وحلفاؤنا العراقيون في إلحاق الهزيمة الساحقة بتلك الأقلية، رغم مضي أربع سنوات من المواجهات المسلحة اليومية مع مقاتليها، ورغم مئات مليارات الدولارات التي أنفقناها، ورغم نشر عشرات الآلاف من جنودنا، ووقوع آلاف الضحايا بينهم؟! إن هذا لا يفسر ما يحدث هناك مطلقاً، إذ كيف للأقلية أن تكون بكل هذه الشكيمة والقوة؟! لذلك فإن من رأيي الشخصي أننا إزاء معضلة أغلبية وليست أقلية، كما يتصور بوش. والذي يحملني على هذا الاعتقاد، أن الرؤية الأميركية للعراق، باعتباره دولة تعددية ديمقراطية موحدة تسير على خطى السوق الحرة، إنما هي خيار ثان في نظر الكثير من القادة العراقيين وأتباعهم في واقع الأمر. ذلك أن الخيار الأول بالنسبة للكثير من الشيعة، هو أن ينهض العراق كدولة دينية يسيطر عليها المذهب الشيعي، وأن تكون موالية لإيران. أما بالنسبة لكثير من القادة السنة، فالخيار الأول هو العودة بالعراق الجديد إلى ذات الأيام الخوالي التي انفرد فيها السنة بالهيمنة السياسية المطلقة على الأغلبية الشيعية. وبالقدر ذاته، فإن الخيار الأول في نظر العراقيين الأكراد هو ضمان استقلال إقليم كردستان الديمقراطي. وعليه فإنه يمكن وصف ذلك العنف الذي يمسك بتلابيب العراق اليوم، وتقوم به فئة ضئيلة من العراقيين، بأنه في واقع الأمر يمثل انعكاسا لتطلعات وأحلام ومخاوف "الأغلبيات" التي تمارسه. وباختصار شديد، فإن الذي يموت من أجله جنودنا هناك، إنما هو خيار ثان بالنسبة للأغلبيات العراقية. ولذلك فمن الواجب وقف هذا الإزهاق الرخيص لدماء جنودنا وأرواحهم هناك، فما السبيل إلى العمل إذن؟ يلاحظ أن معظم الخيارات التي نادى بها "الديمقراطيون" و"الجمهوريون" على حد سواء، تدور حول التخلي التام عن فكرة غرس شجرة الديمقراطية في العراق، وتركيز الاهتمام بدلاً عن ذلك، على خدمة المصالح الأميركية الحيوية والأساسية هناك. والمقصود بهذا، سحب أكبر عدد ممكن من قواتنا من العراق، مع الحيلولة دون اتساع دائرة الحرب الأهلية المحتوم اندلاعها في حال أي انسحاب أميركي عسكري منه، لتشمل بقية أنحاء المنطقة الإقليمية المجاورة. ورغم وجاهة هذا التصور، فإنه لا يحمل من الصواب إلا نصفه. رداً على هذه التصورات أقول: إن بعض الأشياء تظل صحيحة حتى وإن كان الداعي لها الرئيس بوش نفسه. ولعل الشيء الوحيد الصحيح الباقي من استراتيجية بوش إزاء العراق، هو التشبث بمحاولة بناء نموذج عراقي ديمقراطي تعددي ولائق، في قلب العالم العربي. ومن لم يزل تساوره الشكوك حول هذه الحقيقة، ما عليه إلا أن ينظر إلى ما يحدث في قطاع غزة ولبنان، دعك مما يحدث في بغداد، حتى يدرك مدى تعطش هذه المنطقة إلى نظام حكم مختلف بحق. وبما أنه قد سبق لي القول آنفاً، إن مشكلة العراق هي مشكلة أغلبيات وليست أقليات في الأساس، فإن علينا أن نسلط اهتمامنا على الأقليات إذن. وفي نظر حازم صاغية، الكاتب المعروف بجريدة "الحياة" اللندنية، فإن علينا أن نأخذ بالخيار الكردي. ذلك أنه –والحديث لا يزال لصاغية- إذا ما تعذر بناء نموذج عراقي في العراق كله، فإنه لا يزال ممكناً بناء ذلك النموذج في إقليم كردستان. فما الذي يمنع الأخذ بهذا الخيار؟ وإني لأجد نفسي على وفاق تام مع ما ذهب إليه صاغية. فإذا ما أخفقت زيادة القوات الأميركية في دفع العراقيين نحو تحقيق اتفاق سني-شيعي على اقتسام السلطة فيما بينهم، فإنه يصبح لزاماً علينا سحب جنودنا من بلادهم، وإعادة نشرها في الشريط الحدودي، لاحتواء الحرب الأهلية التي ستندلع بينهم. ورغم أن كردستان ليست سويسرا، أي رغم وجود ممارسات الفساد في ذلك الإقليم، إلا أن لديه من المقومات والحريات وبنى التحول السياسي، ما يكفي لبناء نموذج تعددي ديمقراطي لائق في قلب العالم الإسلامي. ويقيناً فإنه ما من شيء يبرر الآن استمرار فداحة خسائر الحرب التي نخوضها من أجل بناء نموذج إقليمي أكبر للديمقراطية في العراق كله. وليكن خيارنا بناء ما نريد وإن جاء مصغراً ومحدوداً في كردستان. ـــــــــــــــــــ كاتب ومحلل سياسي أميركي ـــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"