لقد مضت خمس سنوات على خطاب الرئيس بوش، الذي رسم فيه إطاراً عاماً لرؤيته الخاصة بحل الدولتين لإنهاء الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي. وهناك من توقع أن يجدد بوش ذكرى ذلك الخطاب، بتأكيده لمحتواه. غير أنني سعيد غاية السعادة بأنه لم يفعل. وسبب غبطتي أن الخطاب المذكور، كان مؤشراً على تحول كارثي في سياسات الولايات المتحدة الخارجية إزاء عملية سلام الشرق الأوسط، ولا نزال نعاني آثار ذلك التحول حتى هذه اللحظة. ونتيجة لتغلب المغالاة الأيديولوجية على التاريخ، فقد تم تناسي الخطاب الرئيسي الذي كان قد ألقاه بوش في 24 يونيو 2002، ليحل محله التأكيد على دعم الإعلان عن قيام دولة فلسطينية. أما ما غاب عن الذاكرة، فهو تلك الشروط المسبقة أحادية الجانب، والبعيدة كل البعد عن الموضوعية والواقعية، التي كان بوش قد فرضها على الفلسطينيين في خطابه المذكور، وجعلت من حلم إقامة الدولة الفلسطينية هدفاً مستحيلاً وغير قابل للتحقق. أما ما عكسه ذلك الخطاب في واقع الأمر، فهو انتصار "المحافظين الجدد" على الواقعيين في مسألة تحديد النهج الأميركي في التعاطي مع عملية سلام الشرق الأوسط، وما يجب أن تؤول إليه. والحق أن ذلك الخطاب كان مثيراً لمشاعر خيبة الأمل لحظة إلقائه. ولكي ندرك السبب، فإن علينا مراجعة الظروف أو التوقيت الذي أُلقي فيه. فقد وقعت سلسلة من الهجمات العنيفة التي استهدفت عدداً من المدن الإسرائيلية، في نهاية شهر مارس من عام 2002، نجمت عنها إعادة احتلال شارون للضفة الغربية، ومحاصرته وتدميره لمقر إقامة رئيس السلطة الفلسطينية، ياسر عرفات، في مدينة رام الله. وفي الرابع من أبريل 2002 كان بوش قد ألقى أكثر خطاباته توازناً حتى هذه اللحظة، فيما يتعلق بسياساته الشرق أوسطية إجمالاً. والسبب أنه أعلن فيه تعاطفه ودعمه لكل من طرفي النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني، وحدد فيه المعايير التي ينبغي لكل من شارون والزعيم الراحل عرفات، العمل بموجبها من أجل التوصل إلى تسوية سلمية لحل النزاع فيما بينهما. وضمن ذلك أعلن بوش عن اعتزامه ابتعاث وزير خارجيته وقتئذ كولن باول للمساعدة في تهدئة الأوضاع، وإطفاء النيران المستعرة بين طرفي النزاع. وما أن جاء باول في زيارته الموعودة إلى المنطقة، حتى صعَّد اليمين الأميركي المتطرف و"المحافظون الجدد" حملتهما على الرئيس بوش، إلى حد أرغمه على التراجع عن المسار السابق الذي أعلنه، وهو التراجع الذي وصف بموجبه شارون باعتباره "رجل سلام" في المنطقة، وأعفى بموجبه كذلك الطرف الإسرائيلي من أية مسؤولية عما يجري، مع إلقائه باللوم كله على الجانب الفلسطيني، ممثلاً في شخص ياسر عرفات. ولذلك فقد حدثني مسؤول رفيع المستوى في الخارجية الأميركية، كان برفقة باول في زيارته المشار إليها، قائلاً إن الأخير كان قد أعرب عما ينمُّ عن شعور بالخذلان التام، وبأن زيارته أضحت بلا معنى، جراء تراجع بوش عما أعلن عنه سلفاً. وكان ذلك هو التوقيت الذي سمعنا فيه أن لبوش خطاباً جديداً عن عملية سلام الشرق الأوسط، يجري الإعداد له. وبعد أن أعيدت مسودة الخطاب وتم تبادل ثماني نسخ مختلفة منها، بين البيت الأبيض ووزارة الخارجية، تُلي الخطاب أخيراً في 24 يونيو 2002، إلا أن المدهش أن النسخة التي تمت قراءتها، لم تكن تلك التي توقعتها وزارة الخارجية! وبالنتيجة، فقد جاءت النسخة التي تُليت، عاكسة لوجهتي نظر جد متناقضتين ومتعارضتين، وتراوحت ذهاباً وإياباً بين رؤيتين متعارضتين لحل الأزمة الشرق أوسطية. فبينما تحدثت أجزاء من الخطاب عن تعاطف مع الفلسطينيين في معاناتهم اليومية الفظيعة، وعبرت عن اعتراف بحقهم في التحرر التام من نير الاحتلال الإسرائيلي، تجاهلت أجزاء أخرى منه تماماً تلك المعاناة، وجعلت من حلم الفلسطينيين وتطلعهم لإقامة دولتهم المستقلة، أمراً أقرب إلى المستحيل. وكان الأكثر لفتاً للأنظار فيه، خلوه من أي انتقادات موجهة لإسرائيل. ولذلك كله، فإنه من حسن الحظ، بل من الخير كل الخير، أن لف النسيان ذكرى ذلك الخطاب، غير الحميد.