بينما ينصب الاهتمام على تكثيف الجهود الرامية إلى حماية البيئة واخضرار العالم، يُلاحظ أن تغيرات كبرى تطرأ على عالم يسوده أكثر من ذي قبل اللون الرمادي. والقصد هنا، أن عدد المواطنين البالغة أعمارهم 65 عاماً، يفوقون كثيراً أعداد الشباب دون سن السادسة عشرة في أكثر من دولة من دول العالم. فبحلول العام 2040، سوف يبلغ عمر كل واحد بين أربعة أوروبيين حالياً، حوالى 65 عاماً، وهي نسبة تزيد على ما كان عليه الحال في عام 1980، حيث كانت واحداً بين كل ثمانية أوروبيين. أما في الصين، فإن وتائر الشيخوخة هي الأسرع بين المواطنين من أي دولة أخرى. وليس أدل على ذلك من أنها مهددة اليوم ببدء تضاؤل كثافتها السكانية في وقت مبكر من العقد الثالث من القرن الحالي. وقد أشارت دراسات كثيرة إلى التأثيرات المحتملة لزيادة نسبة المسنين عالمياً، بما فيها المصاعب الناجمة عن عدم تهيئة نظام الرعاية الاجتماعية لهذه الأعداد المهولة من المتقاعدين والعاجزين عن العمل، وكذلك النقص الحاد المتوقع في أرصدة بنوك الدم البشري القابلة للنقل إلى المرضى والمصابين. ونتيجة للزيادة الكبيرة المرتقبة في أعداد المسنين، فسوف يزداد الضغط كثيراً على المستحقات المخصصة للمعاشات مستقبلاً. كما يتوقع للنموذج التقليدي المعمول به حالياً، والقائم على فكرة أن نضارة الشباب هي التي تدخر القرش الأبيض ليوم الشيخوخة الأسود، لن يعود قادراً على أداء ذلك الدور، طالما أن نسبة المسنين تعادل ضعف نسبة الشباب القادرين على العمل في المستقبل. وفي حين كشف استطلاع للرأي العام أجراه بنك HSBC في عام 2006، وشمل 20 دولة ومنطقة إقليمية، عن ميل نسبة 43 في المئة ممن استطلعت آراؤهم إلى تمويل فترة تقاعدهم، فقد بيّن الاستطلاع شعور نسبة لا تقل عن 30 في المئة بضرورة تلقيها مساعدة حكومية في تمويل تقاعدها، سواء كانت تلك الحكومة محلية أم دولية أم إقليمية. وبالنتيجة فقد لاحت في الأفق الخطط المالية الرامية لتخصيص تمويل لرواتب المعاشات، وأضحى من واجب الحكومات، بذل كل ما بوسعها في البحث عن السبل الكفيلة بدعم وتمويل حياة الأعداد المتزايدة من مواطنيها المسنين. وتبعاً للزيادة الملحوظة في نسبة المسنين، فإن المتوقع أن ترتفع كذلك تكلفة الرعاية الصحية. وبحلول عام 2050، يتوقع أن يلتهم نصف ميزانية الإنفاق الاجتماعي المرتبط بالتقدم العمري، التمويل المخصص للرعاية الصحية البعيدة المدى، في كافة دول "منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية". وهناك قوتان دافعتان لهذا التزايد الملحوظ في أعداد المسنين عالمياً. أولهما – وهذا ما يجب الاحتفاء به- أن أعمارنا غدت أطول، أي انخفاض معدل الوفيات وطول مدى دورة الحياة، بسبب تحسن المستوى المعيشي وكذلك نتيجة لتحسن مستوى الرعاية الصحية عالمياً. وعلى سبيل المثال، فقد كان معدل الإعمار للذكور البريطانيين 45 عاماً وللنساء 49 عاماً في سنة 1901. أما اليوم، فيتوقع معظم البريطانيين أن يبلغ الواحد منهم الثمانين عاماً كحد أدنى على أقل تقدير. وبالنتيجة، فقد تجاوزت أعمار نحو 9 آلاف بريطاني في عام 2004، الـ100 عام. وكما سبق القول، فقد أسهمت الرعاية الصحية وتحسن مستوى التغذية وكذلك الظروف الصحية العامة التي يعيش فيها الأفراد هناك، في إطالة مدى إعمارهم. والواضح أن هذا المنحى آخذ في التسارع هناك. ففي غضون العشرين عاماً، الممتدة بين 1985 و2005، طرأت زيادة على معدل الإعمار والحياة منذ لحظة ولادة الطفل، إلى حوالي 5.1 للأطفال الذكور، في مقابل 3.6 للإناث. أما القوة الثانية الدافعة لظاهرة الشيخوخة، فهي انخفاض معدل الأطفال المواليد هنا في القارة الأوروبية. والسبب هو أن تلك الثورة الاجتماعية التي صحبت معها استحداث أقراص منع الحمل في عقد الستينيات، قد مكنت أعدادا متزايدة من النساء، من السيطرة على خياراتهن التكاثرية. وبفضل تلك الثورة، أصبحت أعداد أكبر من النساء، قادرات على تحديد متى وكم عدد الأطفال الذين يرغبن في إنجابهم. وبفضل تلك الأقراص، تمكنت النساء من التوفيق بين حياتهن الزوجية الأسرية والعمل، على نحو لم يكن ممكناً قبل تلك الثورة مطلقاً. ولكن المشكلة أن هذه الحرية في تحديد الخيارات التكاثرية، جلبت معها عواقب اجتماعية سلبية لم تكن مقصودة ولا مخططاً لها. والمعني بهذا تزايد ميل النساء لتأجيل الحمل والإنجاب إلى مرحلة من العمر، يصبح فيها من غير المرجح حملهن وإنجابهن بالطرق الطبيعية التي جبلن عليها. وبالنتيجة فقد بلغ عدد النساء غير المنجبات اليوم، ضعف ما كان عليه عددهن في عقد أربعينيات العقد الماضي. وعليه فقد تضاءل حجم العائلة كثيراً اليوم في غالبية المجتمعات الأوروبية. والمشكلة أن خيارات التخفيف من خطر تفشي الشيخوخة في هذه المجتمعات، محدودة وعلى درجة من التعقيد. ولعل الخيارات الثلاثة الوحيدة لتجاوز هذه المعضلة هي إما إصلاح نظم الرعاية الاجتماعية المعمول بها في القارة، أو زيادة معدلات الهجرة، أو رفع معدلات الخصوبة والإنجاب. ولكن المشكلة أن لكل من هذه الخيارات الثلاثة، تبعاته المالية والسياسية الباهظة التكلفة. ولذلك فكثيراً ما تفادت الحكومات الأوروبية، اتخاذ الخطوات الجادة المطلوبة للتصدي لهذه المشكلة. والسبب أن هذه الحكومات غالباً ما تكون أكثر ميلاً لوضع أنظارها على نتائج الانتخابات السياسية المقبلة، من اهتمامها بما ستكون عليه حياة الجيل المقبل ومستقبل بلادها كلها في المدى البعيد. أما الحل الأكثر واقعية وبعداً من السياسة في ذات الوقت، فيتلخص في السعي لتشجيع المواطنين على إنجاب المزيد من الأطفال. ويتطلب ذلك بالضرورة إزاحة العقبات الاجتماعية والاقتصادية والبيولوجية التي تقف حجر عثرة في طريق الإنجاب. جوناثان جرانت: رئيس مؤسسة "راند يوروب" المستقلة للأبحاث ستينج هورنيس: محلل أول بالمؤسسة نفسها ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"