تتميز منطقة الخليج بتوافر ثروة طبيعية حباها الله بها، وهي مصادر الطاقة من نفط وغاز، بخلاف المسطَّحات المائية التي تزخر بالثروة السمكية، ناهيك عن مغاصات اللؤلؤ في الزمن الجميل، هذه الثروة يجري استثمار عائداتها في معظم الأحيان لصالح المواطن الخليجي والحفاظ على دولة الرفاه والمستوى المرتفع من المعيشة، وتوفير أكبر قدر من الخدمات الاجتماعية من صحة وتعليم وبنية أساسية للمواطنين، فضلاً عن الاستمرار في عملية التنمية الشاملة. وكل ما سبق نعترف به ونثمنه ونقدره، ولكن أليس من المهم التفكير في الغد؟ وماذا ستفعل الأجيال القادمة لو نضبت هذه الثروة ونفد "البترودولار"؟ بعبارة أخرى هل هناك أي تفكير في وضع استراتيجية للادخار بمعناه الشامل لصالح تأمين مستقبل الأجيال القادمة وبناء "آبار من النفط لا تنضب"؟ أم أن معظم الحكومات الخليجية تتبنى مبدأ "أعيش اليوم ولا يهمني غداً"، فالمستقبل في علم الغيب، ولنتركه لظروفه وأهله. والتفكير في الغد لا يعني أن ننسى اليوم، بل إن الواقع يؤكد على أن المستقبل نصنعه بما نفعله اليوم، لذلك فإن المطلوب هو أن تأخذ حكومات دول الخليج العربية في اعتبارها الادخار للمستقبل، من خلال توسيع مفهوم الاستثمار واعتباره قريناً للتنمية الشاملة أو المستدامة، ليشمل هذا الاستثمار البشر والثروة المادية والثروة الطبيعية وغيرها من الثروات التي تضمن للأجيال القادمة مصدراً للحفاظ على مستويات معيشية مناسبة. لذلك فإن استراتيجية الادخار يجب أن تنطلق من اليوم بهدف توفير مصادر للثروة للأجيال القادمة، وعائد كافٍ للحفاظ على دولة الرفاه، ولا يقتصر الأمر على استنفاد ما هو قائم ومتوافر حالياً فقط. إذن كيف يتم الادخار والاستثمار للمستقبل؟ هناك أوجه وقطاعات كثيرة يلزم أن تركز عليها الحكومات الخليجية في استعدادها للمستقبل، ومن ثم طرح مبادرات لتطويرها، من أهمها: * الاستثمار في الثروة البشرية، فالبشر هم آبار من "النفط" لا تنضب لو أحسن تعليمها وتدريبها وتأهيلها للمستقبل، وهذا الأمر يفرض وجود خطط استراتيجية واضحة تحدد الاحتياجات الوظيفية في سوق العمل في المستقبل من جانب، والتخصصات المطلوبة للحفاظ على تطور الدولة وضمان تقدمها من جانب آخر، وكذلك احتياجات توطين الوظائف وما يفرضه من تأهيل وخبرات على المواطنين، ثم يلي ذلك طرح السياسات التعليمية اللازمة والدورات التدريبية والتأهيلية المطلوبة، ثم يتم توجيه وتوعية الشباب للالتحاق بما يتناسب معه ليأخذ في المستقبل مكانه في عجلة الإنتاج والاستثمار، ويحظى بدوره في العطاء الذي لا ينصب. ولا يكفي ذلك وحده، بل يجب ألا ننسى أهمية عملية بناء وتشجيع "علماء وطنيين" في كافة التخصصات، فهم ذخيرة المستقبل وصُناع التطور وحفظة عملية التنمية وضمانة التخلص من عبء التبعية. * قطاع النفط والغاز، فهناك حاجة للاعتراف بأن النفط والغاز من "الثروات الناضبة"، طال عمرها أم قصر، حيث يمكن وضع تقديرات معينة لتحديد عمرها الافتراضي، إذا أخذنا في الاعتبار معدل استنزاف هذه الثروة الطبيعية، لذلك فإن هناك حاجة لطرح معدلات مناسبة تضمن استمرارها لأطول فترة ممكنة، وفي الوقت ذاته التوسع في تقنيات التنقيب للكشف عن مزيد من الثروة، كما يلزم الاستفادة من العائد المادي لهذا القطاع "بترودولار" في إقامة مشروعات استثمارية وصناعية ذات عائد مستمر من جانب، وتضمن توفير فرص عمل ووظائف للمواطنين من جانب آخر، مع التوسع في الاستثمار في منتجات جديدة (تقنية إسالة الغاز) وتقنيات الوقود (مثل خلايا الوقود) وأسواق التوزيع والمعدات. * قطاع الصناعة، فمن المعروف أن التجمعات الصناعية تقود عملية النمو الاقتصادي الوطني من خلال عمق القيمة التي تنتجها وتنوع الصناعات التي تضمّها، ويكمن المفتاح الرئيسي لتنويع الاقتصاد الوطني في تطوير استراتيجيات ومبادرات عمل يكون من شأنها تسريع تكوين وتوسيع وجذب المشروعات في عدد من التجمعات الصناعية المنتقاة، على أن تُجرى عملية انتقاء المشروعات الصناعية وفق معيارين، الأول هو حاجة الدولة لهذه الصناعة وإمكانية تطويرها في المستقبل، والثاني عملية توطين التكنولوجيا المتطورة، مع الأخذ في الاعتبار مدى التلوث البيئي الذي ينتج عن هذه الصناعة، ومن المهم أيضاً دراسة القيمة الاقتصادية التي يمكن لأي من الصناعات المرشحة، من حيث فرص نموها العالمي، وإسهامها الحالي وفي المستقبل في إيرادات الصادرات، وإمكانياتها لتكون صناعة رئيسية في اقتصاد الدولة، وما مدى إسهام كل صناعة مرشحة في تحقيق أهداف السياسة الوطنية، مثل تقليل الاعتماد على القوى العاملة الوافدة. * قطاع السياحة، وقد أثبتت بعض دول الخليج العربية قدرتها على الجذب السياحي، سواء بهدف التسوق أو الترفيه والاستجمام، ولكن هناك حاجة ماسة لوضع استراتيجية متكاملة للمجال السياحي تستثمر الطقس المناسب لمدة لا تقل عن ثمانية أشهر في العام، وتوافر الأمن والاستقرار، ووجود إمكانيات العلاج الطبيعي، وبعض المناطق الأثرية، والتمتع بهوايات خاصة بالمنطقة مثل "السفاري" والتزحلق على الرمال والغطس، وتهدف مجموعة الخطوات ذات الأولوية التي تتضمنها استراتيجية السياحة إلى إحداث أثر في حركية كل نشاط سياحي (تكوين المشروعات السياحية) وعمقه (نمو سلسلة القيمة) واتساعه (نطاق النشاط والقطاعات الموجودة به). * تقنية المعلومات، يتمثل التركيز الاستراتيجي في تطوير هذه الصناعة لتصبح أحد مصادر الثروة في المستقبل، بتحسين قدرتها على خدمة الطلب المتزايد محلياً وإقليمياً، والوصول إلى أسواق جديدة، وهو ما سيؤدي إلى خلق فرص وظائف عالية النوعية للمواطنين في مجال البرمجيات وخدمات الأنظمة، وهنا تبرز الحاجة لتحديد المطالب المستقبلية لسوق المعلومات والتعرف على الإمكانيات المتوافرة لتحقيقها، بحيث يتم بناء جيل من المواطنين القادرين على التعامل مع هذه السوق بل والمساهمة في تطويرها. كل هذا مجرد اقتراحات تدفعنا للتفكير في توفير بدائل ذات عائد يفوق عائدات الثروة الطبيعية المعرضة للنضوب، ولكن يبقى في النهاية "الإنسان" عماد صنع المستقبل، لذلك فإن أهم استراتيجيات المستقبل يجب أن تركز على الاستثمار في البشر "أفقياً" و"رأسياً". فعلى المستوى الأفقي لابد من التوسع في تشجيع الشباب على التعليم والحد من التسرب، على أن يتم تبني استراتيجية للنهوض بالتعليم وتحويله من أداة تلقين إلى أداة تنوير، أما على المستوى الرأسي فإن نظام التعليم يجب أن يفرز الكفاءات في مختلف المجالات، ويُبرز المواهب لدى الشباب، ومن ثم تستطيع الدولة التعرف على علماء المستقبل وتوفر لهم البيئة المناسبة لتحقيق ذواتهم. إن الاستثمار في المستقبل يضمن وجود آبار من النفط لا تنضب، ويوفر ثروة تستطيع أن تعتمد عليها الأجيال القادمة لاستكمال مسيرة التطوير. من المهم أن نوفر حياة كريمة ومرفَّهة للمواطنين حالياً، ولكن من المهم أيضاً أن نستعد للمستقبل لضمان استمرار هذه النوعية من الحياة.