أدّى التوجّه العالمي نحو اقتصاد السوق إلى تخلّي الحكومات تدريجياً عن التزاماتها التقليدية تجاه المجتمع، الأمر الذي زاد من مسؤولية القطاع الخاص للاضطلاع بهذه المهمة في إطار "المسؤولية الاجتماعية للمنشآت التجارية"، التي شكّلت عنواناً لمؤتمر عالمي اختتم أعماله بدبي مؤخراً، بمشاركة أكثر من 300 من المتخصّصين وممثلي المؤسسات والشركات العالمية والمحلية. يعرّف (البنك الدولي) "المسؤولية الاجتماعية للمنشآت التجارية" بأنها "التزام أصحاب المنشآت التجارية الخاصة بالمساهمة في التنمية المستدامة، من خلال العمل مع منسوبيهم وعائلاتهم والمجتمع المحلي والمجتمع ككل، لتحسين مستوى معيشة المواطنين بطريقة تخدم عمل المنشأة والمجتمع في آن واحد". من خلال هذا التعريف الجامع، يتضح أن شركات القطاع الخاص تضطلع بمسؤولياتها الاجتماعية من خلال محورين داخلي وخارجي أو إلزامي وطوعي. فالمحور الداخلي يتمثل في خلق فرص عمل بالأجر المجزي، والمساهمة في التأمين الاجتماعي للعاملين، وتوفير بيئة عمل صحية وآمنة، وضمان جودة وسلامة المنتجات، وهذا كله يمكن تنظيمه من خلال اللوائح والقوانين، كما تفرض بعض الدول على منشآت القطاع الخاص التزامات داخلية أخرى تجاه المجتمع، مثل توظيف عدد من ذوي الاحتياجات الخاصة في وظائف معيّنة أو كنسبة مئوية من إجمالي العمالة بالمنشأة. أما المحور الخارجي لمسؤوليات الشركات تجاه المجتمع، فيتمثل في حلّ المشكلات الاجتماعية والبيئية، وتعزيز التنمية المستدامَة، خاصة على مستوى المجتمع المحلي الذي تعمل فيه المنشأة، وهذا يتأتّى من خلال التزامات طوعية وأخلاقية من جانب الشركات لا تفرضها الأنظمة والقوانين. إن "المسؤولية الاجتماعية" للقطاع الخاص مفهوم جديد لم يتكرّس بعد "ثقافة عامة" تترجم إلى مساهمات عملية بدول المنطقة عموماً، ومن ضمنها دولة الإمارات، حيث لا يزال الدور الاجتماعي للقطاع الخاص محدوداً جداً، ولا يتجاوز عدد شركات هذا القطاع المشارِكة في خدمة المجتمع 1% فقط، بينما ظلت جميع هذه الشركات تحقق أرباحاً قياسية، طيلة السنوات الماضية، بفضل ارتفاع أسعار النفط، والطفرة الاقتصادية الكبرى التي تشهدها الدولة، حالياً، في أكثر من مضمار، والتسهيلات والامتيازات الحكومية الكبيرة التي تقدمها الدولة لهذه الشركات، والتي كان لها أكبر الأثر في خلق بيئة عمل نشطة. إن جانباً كبيراً من المستويات العالية من الأرباح التي تحققها هذه الشركات لم يكن بسبب زيادة في كفاءتها، بقدر ما هو تحسن بيئة العمل المحلية، وزيادة في الطلب على خدماتها ومنتجاتها، حيث يعود الفضل في ذلك للدولة، في المقام الأول. وهكذا تستفيد الشركات الخاصة من عوامل خارجية في تعظيم أرباحها والبلوغ بها إلى مستويات قياسية، دون أن يكون للمجتمع نصيب منها. ورغم كل ذلك، فإن ثقافة "المسؤولية الاجتماعية" للقطاع الخاص، لن تتبلور من خلال النوايا الحسنة للشركات فقط، فثمّة عوامل ضرورية أخرى لتكريسها وتنظيمها. وإذا كان النقد ينصبّ اليوم حول تقاعس شركات القطاع الخاص بشكل عام، وعدم مساهمتها في خدمة القضايا الوطنية والمجتمعية، فإن الجهات الحكومية وشبه الحكومية المعنيّة ووسائل الإعلام تتحمّل القسط الأكبر من هذا التقصير، ما يفرض بدوره على هذه الجهات جميعها الجلوس معاً لبلورة وصياغة رؤية واضحة للانطلاق بالعمل الاجتماعي والوطني للقطاع الخاص. ـــــــــــــــــــــــــــــ عن نشرة "أخبار الساعة" الصادرة عن مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية