باتت تركيا في مواجهة أزمتين، يتوقع أن يكون لهما بالغ الأثر على تشكيل مستقبلها. أولى هاتين الأزمتين دستورية، تتعلق بانتخاب رئيس جديد لها. ذلك أن رئيسها، أحمد نجدت سيزر، قد أنهى دورته الرئاسية في منتصف شهر مايو المنصرم. وقد كان معروفاً عنه أنه علماني قوي الشكيمة، ومنافح عن إرث تركيا العلمانية، الذي خلفه زعيمها المؤسس، كمال أتاتورك. ووفقاً لنصوص الدستور التركي، فإنه يتعين أن ينتخب الرئيس الجديد من قبل البرلمان. ولكن المعضلة أنه ولدى ترشيح رئيس الوزراء الحالي، رجب طيب أردوغان، زعيم "حزب العدالة والتنمية" لوزير خارجيته، عبدالله جول، لم يتمكنا من توفير النصاب القانوني داخل البرلمان، مما اقتضى من المحكمة الدستورية، الإعلان عن بطلان التصويت الذي أجري على ذلك الترشيح. يذكر أن العلمانيين، وبخاصة الجيش التركي، قد أبدوا معارضة قوية لمحاولة تعيين "جول" في منصب وزير الخارجية، بالنظر إلى مماثلتهم له برئيس الوزراء الحالي، أردوغان، باعتبار حزبهما "حصان طروادة" شق طريقه إلى الحياة السياسية التركية، بهدف إنشاء الدولة الإسلامية فيها. وبما أن زوجة "جول"، محجبة هي الأخرى مثل نظيرتها حرم أردوغان، فإن ذلك يعني ظهورها في المحافل الرئاسية الرسمية وفي أوساط النخبة السياسية التركية، وهي ترتدي حجابها، وهذا مظهر لا يرضاه الكثيرون من العلمانيين الأتراك. وفي نظر أتباع أتاتورك، فإنه ينبغي الفصل التام بين الدين والدولة، فيما إذا أرادت تركيا أن تحقق لنفسها نجاحاً، باعتبارها دولة عصرية حديثة. وعلى رغم الانتقادات الكثيرة التي طالت حزب العدالة والتنمية، وكذلك الجذور الإسلامية التي يقوم عليها، إلا أنها لم تفل عزم قائده طيب رجب طيب أردوغان عن المضي قدماً في طريق مساعي بلاده الرامية للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. وقد اقتضى منه ذلك المسعى، الحد من ممارسات الفساد السياسي المتفشية في البلاد، فضلاً عن تقليص عدم الكفاءة الإدارية لجهاز الدولة. أما فيما يتصل بانتخاب الرئيس الجديد، فهو أمر مثير للخلاف والجدل العميقين. ونتيجة لبطلان التصويت على ترشيح عبدالله جول لتولي المنصب، فقد تم تقديم موعد الانتخابات البرلمانية التي كان مقرراً إجراؤها في شهر نوفمبر من العام الجاري، إلى الثاني والعشرين من شهر يوليو من العام نفسه. والأمل الذي يعلقه حزب العدالة والتنمية بالذات على تقديم موعد الانتخابات هذه، أن يوفر البرلمان الجديد المنتخب، ما يكفي من النصاب القانوني الذي يمكِّن الحزب من دعم خطى الإصلاح الدستوري، التي تجعل ممكناً انتخاب الرئيس عن طريق صناديق الاقتراع، بدلاً من انتخابه بواسطة البرلمان. ولكن سحابة القلق والخوف التي تخيِّم على مصير هذه الانتخابات البرلمانية المرتقبة، هي أن يسارع الجيش إلى قطع الطريق أمامها، فيقدم على تنفيذ انقلاب عسكري، يزيح بموجبه الحكومة الحالية بكاملها، على نحو ما فعل ذلك ثلاث مرات على الأقل، خلال العقود الماضية من تاريخ تركيا الحديث. وفيما لو وقع انقلاب كهذا، فإنه سيكون بمثابة نكسة كبيرة لآمال تركيا المتطلعة إلى الالتحاق بعضوية الاتحاد الأوروبي. يذكر أن هذا الأخير، قد ضمّن شرط عدم تدخل الجيش في الشؤون السياسية لتركيا، باعتباره شرطاً رئيسياً من بين الشروط المسبقة التي حددها لنيل تركيا لعضويته. ومهما يكن، فإن للجيش يداً طولى في الأزمة أو التحدي الثاني الذي تواجهه تركيا الآن. والمقصود بهذا التحدي، استمرار الخطر الإرهابي الذي يمثله حزب العمال الكردستاني، لكل من المواطنين وأفراد الجيش التركي على حد سواء. والمعلوم أن هذا الحزب - المُصنَّف في قائمة المنظمات الإرهابية- لا يزال يشن عملياته انطلاقاً من مواقعه وحصونه في شمالي العراق، بعد أن تم طرده من سوريا في عام 1998. وبالنتيجة فقد لقي ما يزيد على 35 ألف مواطن تركي مصرعهم أثناء اشتباكات جرت بينهم وبين مقاتلي حزب العمال الكردستاني، خلال العقدين الماضيين. وحتى هذه اللحظة لم تبد الولايات المتحدة الأميركية ولا الجيش العراقي، استعداداً لإرغام مقاتلي الحزب المذكور على التقهقر من مواقعهم الآمنة التي ينطلقون منها في شمالي العراق. وقد أثار هذا التمنع الأميركي العراقي، ردود فعل غاضبة في تركيا، حيث تتنامى المطالبة بالتدخل العسكري لتدمير حصون وقلاع الحزب الإرهابي العدو، في نظر أنقرة. وفيما لو تدخل الجيش التركي، فإن ذلك لن يقتصر على خلق أزمة بين أنقرة وبغداد فحسب، وإنما قد تطال الأزمة علاقات الأولى بكل من الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي كذلك. وللمفارقة الغريبة، فإن الجيش التركي نفسه يتمنع هو الآخر عن التدخل، بناءً على أسباب عسكرية بحتة، تتلخص في معرفته بمخاطرة خوض مغامرة مواجهة عسكرية مع متمردي الحزب في المناطق الجبلية الوعرة التي ينشط فيها مقاتلوه. غير أن ثورة غضب الشارع التركي بوجه عام، من العمليات العدوانية التي يشنها عليهم مقاتلو حزب العمال الكردستاني، هي التي يرجّح لها أن ترغم كلاً من الأحزاب السياسية والجيش التركيين، على اتخاذ القرار الوحيد الذييبدو لهم أنه لا مفر منه في نهاية المطاف، ألا وهو خوض المواجهة العسكرية الحتمية مع حزب العمال الكردستاني. ومن المؤسف أن يصادف قرار كهذا، ظروفاً تزداد فيها علاقات تركيا بواشنطن توتراً، بينما تزداد المصاعب التي تواجهها أنقرة مع الاتحاد الأوروبي، لاسيما في أعقاب انتخاب كل من المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، والرئيس الفرنسي الجديد نيكولا ساركوزي، وكلاهما متعنت في رفضه لانضمام تركيا لعضوية الاتحاد الأوروبي. وربما كان المخرج الوحيد المحتمل لتركيا من هذه الأزمة، هو قبول اتفاق لوقف إطلاق النار مع حزب العمال الكردستاني في شمالي العراق، مصحوباً بانتخاب رئيس علماني جديد، غير مثير للخلافات والجدل في الشارع التركي. ولكن العقبة أن حزب العمال الكردستاني لا تلوح منه بادرة رغبة في تسوية الخلافات بينه وبين حكومة أنقرة، في حين يرى حزب العدالة والتنمية أحقية له في انتخاب رئيس جديد للبلاد، من بين صفوفه.