في عام 1969 قالت رئيسة الحكومة الإسرائيلية غولدا مائير إنه "لا يوجد شيء اسمه الشعب الفلسطيني". في ذلك الوقت كانت إسرائيل تعمل على اقتلاع البقية الباقية من الفلسطينيين تحقيقاً لمشروع تطهير "الأرض التوراتية" وإعلان إسرائيل دولة يهودية. أسّس لهذا المنطق قبل غولدا مائير وزير الخارجية البريطانية اللورد بلفور، الذي تجاهل في الوعد الذي منحه باسم بلاده ليهود العالم بإقامة وطن قومي لهم في فلسطين، أي حق أو حتى أي وجود للشعب الفلسطيني، علماً بأن عدد اليهود في ذلك الوقت كان أقل من عشرة في المئة فقط من عدد العرب، مسلمين ومسيحيين. وكرّس بلفور بذلك المقولة التي قالت بها الحركة الصهيونية المسيحانية منذ القرن السابع عشر باعتبار فلسطين "أرضاً بلا شعب لشعب بلا أرض". أما الشعب الذي كان بحاجة إلى الأرض "السائبة" فهو الشعب اليهودي. من أجل ذلك لم يسمح الانتداب البريطاني الذي فُرض على الفلسطينيين بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية بإقامة دولة خاصة بهم على غرار ما جرى في لبنان وسوريا والأردن والعراق، وهي الدول التي كانت تشكل في مجموعها سوريا الكبرى. فقد حولت بريطانيا فلسطين إلى قفص حديدي، كما يقول الدكتور رشيد الخالدي في كتابه الجديد "قصة النضال الفلسطيني من أجل الدولة". ولكن مع بداية الحرب العالمية الثانية قدمت بريطانيا وعداً للفلسطينيين بمنحهم الاستقلال خلال عشر سنوات، وهو ما رفضه الفلسطينيون في ذلك الوقت. ولكن ما أن وقعت المأساة الكبرى لليهود في أوروبا على يد الحركة النازية -الهولوكوست- حتى تجاوزت بريطانيا نفسها هذا الوعد المشروط وفتحت أبواب الهجرة لليهود للاستيطان في فلسطين. وفي عام 1948 قامت الدولة الإسرائيلية، وطرد الفلسطينيون من أرضهم، حيث لا يزالون يقيمون حتى اليوم في مخيمات في سوريا ولبنان والأردن، وحتى في غزة والضفة الغربية. وخلال العقود الستة الماضية وقعت سلسلة من الحروب العربية - الإسرائيلية. وانبثقت حركة المقاومة الفلسطينية نتيجة لفشل الدول العربية في هذه الحروب. ثم قامت سلسلة من الانتفاضات الفلسطينية نتيجة لفشل المقاومة في تحقيق الأهداف الوطنية الفلسطينية. وخلال هذه العقود الستة أيضاً جرت عدة محاولات للتسوية السياسية في إطار الأمم المتحدة وخارج هذا الإطار، ومع الولايات المتحدة حصراً، إلى أن كان مؤتمر مدريد 1990 الذي وضع ترجمة لقراري مجلس الأمن الدولي 242 (1967) و338 (1973) تقول بمقايضة الأرض بالسلام. وهي المقايضة التي أدى تعثرها إلى وقوع سلسلة من الأحداث الدموية التي دفع ويدفع ثمنها الفلسطينيون والإسرائيليون على حد سواء. صحيح أن كثيراً من المياه مرت من تحت جسر هذا الصراع، منها التسوية المصرية- الإسرائيلية، والتسوية الأردنية- الإسرائيلية، والانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان، إلا أن كل ذلك لم ينعكس إيجاباً على الملف الفلسطيني - الإسرائيلي. الآن يقول رئيس الحكومة الإسرائيلية إيهود أولمرت في قمة شرم الشيخ التي جمعته إلى الرئيس حسني مبارك والملك عبدالله الثاني والرئيس محمود عباس إن إسرائيل مستعدة للقبول بمشروع الدولتين الذي تقول به خريطة الطريق التي وضعتها القوى الأربع: الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والاتحاد الروسي ومنظمة الأمم المتحدة. أي بإقامة دولة فلسطينية جنباً إلى جنب مع إسرائيل، تتعايشان بسلام. وقد اجتمعت هذه اللجنة في إسرائيل مباشرة مع لقاء شرم الشيخ لتجدد التزامها بخريطة الطريق من دون أن تحدد أي موعد زمني لتنفيذها. ومع ذلك يمكن القول إن المشكلة لم تعد حول وجود الشعب الفلسطيني أو التنكر له، ولكن المشكلة انتقلت إلى تحديد حدود الدولة الفلسطينية العتيدة، وإلى الأسس السيادية التي تقوم عليها. ومن هنا خطورة ما حدث في غزة ومن تداعياته على وحدة الشعب الفلسطيني. هناك حوالى خمسة ملايين فلسطيني يعيشون الآن إما في الهجرة، أو تحت الاحتلال. وهناك حوالى خمسة ملايين إسرائيلي يعيشون إما بقلق، أو في حالة استنفار. ثم إن هناك تصورين للحل سقط أحدهما وبقي الثاني؛ أما التصور الذي سقط فكان يقول بإقامة دولة واحدة إسرائيلية- عربية يتعايش فيها اليهود والمسلمون والمسيحيون العرب في عدالة ومساواة. وكان هذا التصور فلسطينياً. وقد رفضه الإسرائيليون اعتقاداً منهم، وهو اعتقاد صحيح، بأن العرب سيتزايدون مع الوقت بحيث يصبح اليهود أقلية يفقدون معها حلم ومبدأ الدولة الملجأ الذي تشكله إسرائيل بالنسبة ليهود العالم.. وحتى ليهود إسرائيل أنفسهم. وأما التصور المتداول اليوم فهو الذي يقوم على مبدأ الدولتين، وهو مبدأ قديم قِدم أول حرب عربية- إسرائيلية. فقد سبق للأمم المتحدة أن قالت به في عام 1949. وذهبت إلى أبعد من ذلك، فرسمت الحدود. ولكنها عجزت عن تنفيذه. وفي ذلك الوقت جاء الرفض من الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي. كان الفلسطينيون يرفضون التنازل عن أي شبر من الأرض.. فكيف وأن التنازل المطلوب هدفه إقامة دولة على جزء من أرضهم؟. وكان الإسرائيليون يرفضون لأنهم كانوا يتطلعون إلى المزيد من الأرض لاستيعاب المزيد من المهاجرين اليهود الذين ضاقت عليهم الدنيا الأوروبية بما رحبت. أما الآن فإن القوى الأربع تقول بالتقسيم على قاعدة الأمر الواقع. أي 78 في المئة من الأرض الفلسطينية لإسرائيل و22 في المئة لفلسطين. هذه المرة رضي الفلسطينيون على رغم أن حصتهم أقلّ أضعافاً مما كان مقرراً لهم في عام 1949. غير أن تنفيذ هذا الحل التقسيمي يواجه ثلاث عقبات رئيسة: العقبة الأولى هي وجود المستوطنات اليهودية في أعماق الأرض الفلسطينية في الضفة الغربية. فالإسرائيليون لا يوافقون على تفكيكها وإزالتها كما فعلوا في غزة.. وكما فعلوا قبل ذلك في سيناء، حيث فككوا وأزالوا مستوطنة "ياميت". العقبة الثانية هي وجود حوالى مليون فلسطيني عربي داخل إسرائيل. وهم يتزايدون بنسبة أعلى من نسبة تزايد اليهود، الأمر الذي تعتبره إسرائيل خطراً على التوازن الديموغرافي الذي قد ينعكس سلباً في المستقبل على الطابع اليهودي للدولة. أما العقبة الثالثة فهي القدس، المدينة التي يجمع على قدسيتها اليهود والمسيحيون والمسلمون معاً. لقد كان تقرير مصير هذه المدينة المشكلة الأساس منذ أن اعترفت الأمم المتحدة بإسرائيل في عام 1948 ولا تزال حتى الآن المشكلة الأساس التي تعترض كل صيغ الحلول المقترحة. عجز الإسرائيليون عن إلغاء الشعب الفلسطيني. وهم الآن مضطرون للاعتراف به وللتعامل معه، على رغم انقساماته وصراعاته الدامية على النحو الذي شهده مع الأسف الشديد قطاع غزة. ولو أنهم لا يزالون ينكرون عليه الكثير من حقوقه الوطنية والإنسانية التي يطالب بها. وعجز الفلسطينيون، ومعهم العرب، عن إزالة إسرائيل أو التغلب عليها. وهم الآن مضطرون للاعتراف بها وللتعامل معها (كما فعلت مصر والأردن تحديداً ودول عربية أخرى مثل موريتانيا ولو على مستوى أدنى). وقد جاءت مبادرة التسوية الشاملة التي أقرتها القمة العربية في بيروت في عام 2002، والتي جددت التأكيد عليها القمة التي عُقدت في الرياض في شهر مارس 2007، لتؤكد على الالتزام بهذا الخيار!! وقد دفع الإسرائيليون غالياً جداً ثمن إنكارهم للشعب الفلسطيني وجوداً وحقوقاً. ودفع العرب غالياً جداً أيضاً ثمن عجزهم عن التعامل مع الوجود الإسرائيلي عسكرياً وسياسياً. كما فشلت كل محاولات تذويب الشعب الفلسطيني في الدول العربية وفي العالم. وما كان لهذا الفشل أن يكون لولا تمسك الفلسطينيين بأرضهم وبوطنهم وبهويتهم الوطنية. وفشلت كل محاولات كسر شوكة إسرائيل العسكرية. وما كان لهذا الفشل أن يكون لولا تمسك الإسرائيليين بالأرض التي استوطنوها، ولولا الدعم السياسي والاقتصادي والعسكري الذي يتدفق عليهم من كل زوايا العالم، وخاصة من الولايات المتحدة. غير أن كل هذه الوقائع على أهميتها، لا تحقق السلام ولا تشكل أساساً لتسوية سياسية. ذلك أنه لا يكفي قيام دولتي إسرائيل وفلسطين. ولا يكفي تبادل الاعتراف بينهما. ولا يكفي عقد اتفاقات أو معاهدات ثنائية. فالتسوية حتى تستقر وتعيش، تحتاج إلى أكثر من ذلك. إنها تحتاج إلى توافر حدّ أدنى من الثقة المتبادلة، حتى ولو كان التعايش الإسرائيلي- الفلسطيني يقوم على الاضطرار وليس على الاختيار. ولبناء الثقة مستلزمات ثقافية وتربوية، ولها مقومات اقتصادية واجتماعية يحتاج توفيرها إلى الكثير من الشجاعة الأدبية لمراجعة الذات ولتنقية الذاكرة الجماعية مما كوّنته من صور نمطية سلبية متبادلة محفورة بعمق في عقول وفي أنفس الإسرائيليين والعرب على حدّ سواء!.