يسود اعتقاد الكثيرين في واشنطن هذين اليومين أنه ومع تولي نيكولا ساركوزي رئاسة فرنسا، وكون أنجيلا ميركل على رأس السلطة في ألمانيا، متبوعاً باحتمال تولي جوردون براون ذي النزعة الأطلسية لمنصب رئيس الوزراء البريطاني، خلفاً لتوني بلير، إلى جانب وجود "الأخوة كازانسكي" في قمة الهرم السياسي في بولندا، مع ما طرأ من أعراض ضعف ووهن على الحكومتين "اليساريتين" في كل من إسبانيا وإيطاليا، في مقابل استقواء شوكة الحكومة البلجيكية المحافظة، فإن ربيعاً جديداً قد حل على "المحافظين الجدد" في أميركا، وإن فصلاً آخر من فصول سعدهم قد دار. والأرجح أن هذا الاعتقاد، إنما يقوم في غالبه الأعم على التصور الخاطئ القائل إن السياسات الخارجية للدول والأمم، إنما تصنعها الشخصيات والأهواء والرغبات الشخصية، وليست المصالح القومية، كما هو معلوم في حساب الحكومات لتلك السياسات وصنعها وإدارتها. أما بالنسبة للرئيس الفرنسي "ساركوزي"، فإنه يعد مسؤولاً لوحده عن تلك الصورة التي رسمها عن تحالفه مع واشنطن، بسبب تلك الصورة التي التقطت له في العام الماضي، مع الرئيس جورج بوش، تمهيداً لحملته الانتخابية التي أفضت إلى فوزه بالمنصب الرئاسي. ولو أدرك "ساركوزي" مغبة ما فعل، فقد دمرت تلك الصورة شخصيته، أكثر من أن تعلي من شأنه ومكانته في نظر عدد لا يستهان به من مواطنيه الفرنسيين وكذلك من حلفاء بلاده الأوروبيين. وينشأ ذلك الخلط كذلك من تشويش معرفة الكثير هنا في فرنسا بالولايات المتحدة الأميركية، ممن أسفوا على ذلك الخلاف المرير، الذي حدث بين كل من فرنسا وألمانيا من جهة والولايات المتحدة الأميركية من جهة أخرى، بسبب غزو الأخيرة للعراق في عام 2003. يذكر بهذه المناسبة أن الفيلسوف الفرنسي الشهير، "برنارد هنري ليفي"، قد نشر مقالاً مؤخراً، دفع عدداً من "المحافظين" الأميركيين وغيرهم إلى الاعتقاد ببزوغ نجم "محافظ جديد" ستقدر له قيادة دفة سياسة فرنسا الخارجية. والمقصود بهذا النجم الجديد هو "برنارد كوشنار"، الذي طالما عد شخصية "يسارية" ذائعة الصيت بسبب إنشائه لمنظمة "أطباء بلا حدود" المتخصصة في الإغاثة. غير أن لهذا الرجل سجلاً يحق لشبكة "فوكس نيوز" الموالية لـ"المحافظين الجدد" أن تصف صاحبه بأنه "ليبرالي نازف القلب" فيما لو كان "كوشنار" أميركي الجنسية. والحقيقة أن "ليفي"، شأنه شأن الكثيرين ممن هم خارج الولايات المتحدة الأميركية، يصعب عليهم جداً فهم تيار "المحافظين الجدد" في الولايات المتحدة. ثم إن مصطلح "الفيلسوف" نفسه في معناه الفرنسي المحدد، لا يعني شيئاً آخر سوى معلق عام له ارتباطاته وصلاته الفكرية الأكاديمية. ولذلك فهو أبعد ما يكون عن تلك الصورة الفضفاضة المزهوة، التي ترسم عادة عن من يطلقون عليهم لقب"المثقف العام" في أميركا. هذا وتعود شهرة" كوشنار" في الأساس، إلى مبادرته إبان عمله كطبيب في أيام شبابه الباكر، ولتعاطفه مع تمرد "بيافرا" الشهير في نيجيريا خلال الفترة 1968-1970. وبسبب تلك القناعات والمواقف، فقد قطع "كوشنار" صلته بتقاليد جمعية "الصليب الأحمر" الدولية، القائمة على عدم الانحياز السياسي التام، لينشئ منظمة "أطباء بلا حدود" وهي مجموعة طبية مختصة بأعمال الإغاثة الطبية، وتنطلق من ضمير واع سياسياً في تدخلها الطوعي في مناطق الحروب والنزاعات المسلحة، ولا تتردد في الانحياز إلى صف المتمردين والجماعات الثائرة، متى ما آمنت تلك الجماعات بعدالة وصحة القضايا التي تكافح من أجلها. وبتلك الخطوة، فقد ابتكر وتبنى "كوشنار" مبدأ "التدخل الإنساني" مع العلم أنه المفهوم الذي تعرض للانتقاد إبان وما بعد الحرب البوسنية، بسبب ما نسب إليه من تشجيع وحض على تبني السياسات الإجرامية من قبل الحكومات الخارجة على القانون، خاصة عندما تعلن تلك الحكومات مسؤوليتها عن ضحاياها. ولذلك فقد نظر إلى "كوشنار" بعيون أهل بلاده، على أنه محسوب على "اليسار" الفرنسي، فضلاً عن كونه عضواً مشاكساً من أعضاء الحزب الاشتراكي. وإن كان "ليفي" قد نعته بكونه "محافظاً جديداً" فما ذلك إلا نتيجة لخلط في ذهن "ليفي" نفسه بين مفهومي "التدخل الإنساني" و"التدخل الديمقراطي"، علماً بأن تيار "المحافظين الجدد" الأميركي يروج لهذا المفهوم الثاني ويتبناه، على نحو ما رأينا في الحروب التي شنها على كل من العراق وأفغانستان. وتجدر الملاحظة هنا أن "كوشنار" كان من مؤيدي الغزو الرامي للإطاحة بنظام صدام حسين، بيد أنه عارض السياسات الأميركية التي أعقبت الغزو. وبالمقارنة، فقد أثار المرشح الرئاسي الديمقراطي "جون إدواردز" مؤخراً، غبار فضيحة محدودة النطاق بين الساسة والصحافيين الأميركيين، بوصفه للحرب الدائرة على الإرهاب، على أنها مجرد شعار دعائي سياسي لا أكثر. وعلى رغم الانتقادات التي كالها له خصومه من "المحافظين الجدد"– بل ومن بعض أعضاء حزبه الديمقراطي- فإن وصفه ذاك يظل صحيحاً، لكون هذه الحرب لا تحمل أكثر من مجرد شعاراتها الدعائية السياسية، لكونها لا تعبر عن سياسة ولا استراتيجية محددة. والشاهد أن هذا الخلط الفكري لمفهوم الحرب، إنما هو خلط متداول في أوساط بعض جماعات الصحوة الإسلامية، وكذلك بين دعاة الإصلاح الرجعي، ودعاة الرد السياسي الثقافي على العدوان الغربي، إلى جانب تفشيه في أروقة واشنطن نفسه، وفي حكومات بعض حلفائها الذين تضاءل عددهم في أعقاب تنحي حليفه الرئيسي توني بلير عن منصبه غداً. وبالنتيجة فقد أصبح الإخوة "كازانسكي" في وارسو، في صف آخر المنحازين والمؤيدين من دون تردد لسياسات واشنطن. ولهذه الأخيرة أن تعتقد ما تراه بشأن بروز "محافظ جديد" هنا وهناك في أنحاء القارة الأوروبية. غير أن الذي تدركه غالبية الأوروبيين أن سياسات الولايات المتحدة المتبعة في الشرق الأوسط وأفريقيا على سبيل المثال، إنما تلحق بها وبتلك البلدان، ضرراً، أكثر من أن تخدم مصالحها وتسهم في التحول الإيجابي الديمقراطي لتلك الدول. ويليام فاف كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "تريبيون ميديا سيرفيز"