للنفط استخدامات كثيرة ومتعددة على مدار التاريخ، فقد استعمله الصينيون لتبخير الماء المالح لإنتاج الملح، والعراقيون لرصف الطرق، وليس غريباً أن يصبح في قلب الاستراتيجيات الاقتصادية والعسكرية اليوم. وتعود بداية النفط الحديثة إلى عام 1853 باكتشاف عملية التقطير على يد عالم بولندي. وبعد فترة خرجت صناعة النفط الأميركية لتصبح الرائدة في العالم. أما الفحم، أشهرُ أنواع الوقود، فقد أخذت أهميته تتناقص بتزايد الاكتشافاتِ النفطيةِ والتحوُّل الكبير في المحركات التي تعمل به. وتكمن قيمة النفط في إمكانية نقله والكمية الكبيرة للطاقة التي يولدها ودخوله في العديد من الصناعات الكيميائية. وبسبب محدوديته وإمكانية نفَادِه، فقد أصبح محور حلقات الصراع والتعاون في العالم اليوم. ولا شك أن المخزون العالمي موجود في الشرق الأوسط. وإذا كان ثمة اختلاف في ماهية الشرق الأوسط، فإن المقصود منه أساساً المنطقة الجغرافية المسماة بالعالم القديم، وهي مهد الحضارات والأديان السماوية، ومنها شبه الجزيرة العربية والخليج حيث يكمن أكبر احتياطي وإنتاج في العالم. ولكن، بعيداً عن تناول الجانب الاقتصادي والسياسي المحض، فإن ما يهمُّنا هنا هو كون النفط مادة مهمَّة أيضاً ترسُم في مخيلة الغرب صورةً أخرى عن الشرق تحيلُنا إلى زمن الاستشراق وما واكَبه من تصورات تلقَّفها خيالُ الغرب من بين شفاه شهرزادِ ألف ليلة وليلة وحكايا بغداد، دار السلام التي ما عادت دار سلام،...وحريم سلاطين آل عثمان. فقد ساد لدى الغرب أن الشرقي هو التركي بما نسج عنه من خيالات وأساطير نقلها المستشرقون والرحالة لتداعب ملذاتهم وخيالهم. لقد كان الشرق طوال تاريخه حلماً يراود الغرب ومصدراً للمتعة والسمر والجمال المطرّز بالغرائبية. غير أنه بعد أن خفت بريقُ الشرق، وتراجعت قوةُ الجذب فيه أمام المد الغربي، الذي استتب له الأمر، فأصبحت المنطقة اليوم امتداداً للتوسع الغربي ونوعاً جديداً من الاستشراق، وقودُه هذه المرة ليسَ ذاك العالم الخيالي ومُتَع الليالي الخاليات بل النفط، ولم يعد عبق أسواقه وعطر حدائقه مصدر الإلهام، بل رائحة النفط التي تستقطب كل باحثٍ عن الثروة... والنفوذ. وفي هذا السياق، يأتي النفط كمادة فكرية، تعكس النزعة الاستشراقية، فقد انتقلت غرائبية الشرق الساحر إلى شرق النفط الوافر. والغرب بنظرته هذه يمنحُ هذه النزعة بُعداً جديداً. وبيت القصيد هنا أن المنطقة التي يدور فيها الصراع على النفط أصبحت تَستمِدُّ عناصر هويتها من هذه الثروة، بل إنها ربما المكون الوحيد الذي من دونه لا تقوم لها قائمة في عالم اليوم. وقد زادت حروب النفطِ من تعزيز هذه الرؤية الغربية للشرق، بل إن ثمة من يرى أن النفط سلاحٌ خطير قد يستخدمه هؤلاء "العرب والمسلمون" لضرب المصالح الغربية. ويذهب الكثيرُ من المفكرين أبعدَ من ذلك إذ يرون أن قيام إسرائيل ظاهرةٌ نفطية، حيث يفسح الصراعُ العربي- الإسرائيلي المجالَ لدخول الدول الكبرى من أميركا وروسيا وأوروبا إلى الصين، وإن كان للغرب نصيب الأسد مع كل ما ينتج عنه من تعاون حينا وصراع أحيانا. ولم يمنع هذا أن يأتي دعمُ قيام إسرائيل من العقيدة البروتستانتية التي كانت حاضرة حتى في حروب نابليون، والاعتراف بها والتفاعل والتقاطع معها في مجمل السياسة الدولية، وهي محورٌ مهمٌّ في نظر الغرب كونُ اليهود من الشرق ويتَّخذون النموذج الغربي في مجمل الحياة السياسية والاقتصادية ومن ثم كانوا الحارس الأمين للنفط في المنطقة لصالح الغرب عامة، وواشنطن خاصة. ثم جاءت حرب أكتوبر لترسم صورة "سلبية" عن الشرق لدى الغرب بسبب استخدام سلاح النفط، حيث شُبِّه هذا العملُ بالإرهاب الدولي وتشكَّلت هذه الصورة إلى يومنا هذا، وأصبح الأمن النفطي أولوية الغرب في الشرق ومناط كل السياسات والاستراتيجيات، بل لقد أصبح الشرق النفطي موضوعاً لدراسات وأبحاث تتناوله في كل أبعاده لا سيما في انعكاساتِ أي سياسةٍ على مصالح الغرب في المنطقة. وكان النفط حاضراً أيضاً في غزو الكويت وتحريرها وفي حرب العراق وأفغانستان وفي كل الصراعات التي تعصف بالشرق كيفما كان لونها، مما يعزز الصورة التي جعلت من النفط عنوان الشرقِ الذي لا تخطئه القوى الغربية. ورغم هذه الأهمية الاستراتيجية فإن الاقتصاديين يحتارون في تصنيف دول الشرق النفطية، هل هي نامية أم متقدمة أم هي متقدمة اقتصادياً بامتلاك المورد النفطي، ونامية لأنها لا هي صناعية ولا هي متقدمة، فهي بين البين... ربما كان هذا من غرائبية الشرق أيضاً! ولا تخرج هذه الرؤية الغربية عن موقفها، الذي يرى أن نفط المنطقة يجب ألا يسقط بين أيدي الجماعات التي لا تبادلها الود. ومن ثم فإن الغرب يحسب ألف حساب لنمو الحركات، التي يمكن أن تعرقل إمدادات النفط، وهو يراها مصدرَ خطر في كثير من المناطق العربية، وتمتد إلى الدول الإسلامية في حركة مناهضة لسيطرة الغرب على نفط الشرق. ومعنى هذا أن الغرب يخشى زعزعةَ استقرار الدول المصدرة للنفط بالإرهاب وأسلحة الدمار الشامل ويتوجس خيفةً من استخدام سلاح النفط ومن النزاعات الداخلية في الشرق واضطراب الجغرافيا السياسية فيه. صحيح أن النفط كَتبَ للشرق قوةً أمام الآخر، إلا أنه أصبح يشكِّل مرجعية في نظرة الغرب إليه اليوم. وإذا كان الشرق الأوسط قد شهد مرور قرابة قرن على تفكك الإمبراطورية العثمانية، فإنه يبقى بؤرة حقيقية لمختلف الصراعات والاضطرابات والغربُ متربصٌ به ويُعِدُّ الخطط والاستراتيجيات التي تتأرجح بين الاحتلال وفرض إصلاحات سياسية واقتصادية، وربما إعادة رسم خريطته. وكل هذا الاهتمام والدراسة والتدخل الغربي في حال الشرق الأوسط يفوحُ برائحة النفط... فبين رمال الجزيرة الصفراء ومياه الخليج الزرقاء يرى الغربُ الشرقَ الآسر في مرآة النفط الأسود بعيداً عن ليالي شهرزاد... ربما صاح الديك ولم نسمع أن علي بابا بات بيننا!