لعل أهم حجة يستند إليها القائلون بوجود النسخ في القرآن هي الآية التالية، وهي الثالثة من الآيات الأربع التي بدأنا في شرحها في المقال السابق، يقول تعالى: "مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا، أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (البقرة- 106). يستهل القرطبي تفسير هذه الآية -بعد ذكر مسائل لغوية- بالإشارة إلى ما يُعتقد أنه سبب نزولها وهو "أن اليهود لما حسدوا المسلمين في التوجه إلى الكعبة وطعنوا في الإسلام بذلك، وقالوا إن محمداً يأمر أصحابه بشيء ثم ينهاهم عنه، فما كان هذا القرآن إلا من جهته ولهذا يناقض بعضه بعضاً، فأنزل الله: "وإذا بدلنا آية مكان آية" وأنزل "ما ننسخ من آية". وهذا الذي يقوله القرطبي هنا فيه خلط كبير! وذلك من ناحيتين: فمن جهة ليس هناك في هذه الآية ولا في سياق الآيات التي ترتبط بها ما يسمح بربطها بمسألة تغيير القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة. إن الآيات التي تتحدث عن هذه المسألة قد جاءت بعد هذه الآية (التي رقمها 106)، وفي سياق آخر يبتدئ بالآية رقم 140، وهو سياق منفصل عن السياق السابق له على مستوى الموضوع وربما على مستوى تاريخ النزول أيضاً. ذلك أن تحويل القبلة قد تم في النصف الثاني من السنة الثانية للهجرة (حوالى الشهر الثامن عشر بعد الهجرة). أما الآية التي نحن بصددها فهي تنتمي إلى القسم الأول من سورة البقرة، الذي معظمه في الجدال مع اليهود. والغالب على ظن المفسرين أن هذا القسم نزل قبل أن تطرح مسألة القبلة. ومن جهة ثانية يتجلى الخلط الذي وقع فيه القرطبي وغيره من المفسِّرين بصدد هذه الآية في جمعهم بين آية نزلت بمكة وهي قوله تعالى "وإذا بدلنا آية مكان آية" (النحل 101) وآية نزلت بالمدينة وهي التي نحن بصددها، وربطهم لهما معاً بمناسبة واحدة تقع زمنياً بعد الهجرة من مكة، هي مناسبة تغيير القبلة. وقد وقع الواحدي في هذا المحظور إذ جمع هو الآخر بين الآيتين المذكورتين في سياق واحد. وسنذكر أشباهاً ونظائر لهذا النوع من الخلط والتداخل لدى رواة "أسباب النزول" في مقال لاحق. على أن ما يزعج حقاً، في أقوال رواة "أسباب النزول" في تفسيرهم لبعض الآيات، هو إغفالهم السياق إغفالاً تاماً. فالواحدي ينتقل بقارئه، بعد الذي ذكره بصدد "آية النسخ" السابقة (البقرة 106)، إلى آية تالية ترتبط بها ارتباطاً مباشراً وهي قوله تعالى: "أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ، وَمَنْ يَتَبَدَّلْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ" (البقرة 108)، ليذكر، كسبب لنزول هذه الآية، شيئاً آخر تماماً لا يتصل بصلة بما ذكره بصدد "آية النسخ" تلك. يقول: "قال ابن عباس نزلت هذه الآية (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ) في عبدالله بن أبي كعب ورهط من قريش قالوا: يا محمد اجعل لنا الصفا ذهباً ووسع لنا أرض مكة وفجِّر الأنهار خلالها تفجيراً نؤمن بك". وهذا في نظرنا لا يستقيم. ذلك أن هذا الطلب الذي طلبته قريش من النبي عليه الصلاة والسلام، إن صح، لابد أن يكون قد حدث في مكة قبل الهجرة، في حين أن الآية المذكورة تنتمي إلى سورة البقرة التي نزلت في المدينة. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فسياق الآيات التي تؤطر "آية النسخ" جزء من سياق الجدل مع اليهود، وهو سياق يبتدئ من قوله تعالى : "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا، وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ" ... إلى قوله: "وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا، حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ، مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ، فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (البقرة 104- 109). وفحوى هذه الآيات –كما يقول المفسرون- أن اليهود كانوا يقولون للنبي عليه الصلاة والسلام خلال جدله معهم "راعنا"، فأخذ عنهم المسلمون ذلك اللفظ، فصاروا يخاطبون به النبي عليه الصلاة والسلام عندما يأتيه الوحي ويأخذ في إسماعهم إياه بِنُطق سريع، قاصدين بذلك معنى أرفق بنا وتمهَّل حتى نتتبع ما تقرؤه علينا. فنهاهم القرآن عن ذلك وقال: "قولوا انْظُرنا (انتظرنا)، واسمعوا..."، لأن لفظ "راعنا" الذي كانت تستعمله اليهود يدل في لغتهم على معنى الشتم والسب، وهذا ما قصدوه. وتأتي الآية التالية لتبين أن استعمال اليهود لعبارة السب والشتم في حق النبي والمسلمين يرجع إلى عدم رضاهم، هم والمشركين، عن الدين الجديد الذي عبرت الآية عنه بـ"الخير" ("يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ")، هذا الدين الذي جاء ناسخاً للأديان القديمة. ثم تضيف الآية: "وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ (النبوة...) مَنْ يَشَاءُ": لقد اختص بها اليهود والنصارى من قبل، وهو يختص بها المسلمين اليوم". بعد هذا يأتي قوله تعالى : "مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا". والمقصود بـ"الآية" موضوع النسخ هنا، هي، حسب السياق، النبوة في اليهود (التوراة)، أما قوله "أو نُنْسِها" فهو -في نظرنا- إشارة إلى النبوات التي ظهرت لدى "أهل القرى"، كعاد وثمود ومدْين، والتي صارت منسية لطول العهد بها. وأما قوله "نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا" فالمقصود به نبوة نبي الإسلام. وهذا ما تشرحه آية أخرى ورد فيها أن النبي محمداً عليه الصلاة والسلام جاء بكتاب مصدق لما بين يديه من النبوات فهو مثلها، وفي نفس الوقت هو خير منها. ذلك لقوله تعالى: "وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ (القرآن) بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ (التوراة)، وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ" (المائدة 48)، نبوة محمد عليه الصلاة والسلام خير من النبوات السابقة فهي مهيمنة عليها، ناسخة لها. ونعود إلى تتمة آية "ما ننسخ..." وهو قوله تعالى: "أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ" (البقرة 106- 107)، لنشير إلى أن ربط عملية النسخ بقدرة الله... الخ، يناسب ليس "الآيات الكلام" فحسب، بل الأفعال والحوادث، وهذا هو المقصود لأن المعنى لا يستقيم مع صرف معنى النسخ إلى "حروف الآية" بل يحتم السياق صرفه إلى قدرته تعالى على الإتيان بشرائع وعلامات ودلائل وحجج ... جديدة تحل محل القديمة. ويستمر هذا الخطاب ليتحول إلى نوع من العتاب للمسلمين الذين كانوا يقولون للرسول "راعنا" كما بينا آنفاً. قال تعالى: "أَمْ تُرِيدُونَ (بقولكم للرسول راعنا، أي أمهلنا ولا تسرع في القراءة) أَنْ تَسْأَلُوا (تطلبوا من) رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ (=طلب من موسى) مُوسَى مِنْ قَبْلُ" وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ" (108)، والمعنى : هل تريدون أن تسلكوا مع رسولكم نفس المسلك الذي سلكه بنو إسرائيل مع موسى إذ كانوا يتذمرون ويشتكون ويشتطون في الطلب (وهو معنى قولهم: راعنا)، حتى بدلوا الكفر بالإيمان، وضلوا سواء السبيل. وتعود الآية التالية إلى بداية السياق (أعني قوله تعالى: "مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكونَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ"، فترتبط به وتقرر من جديد: "وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ، مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ". وهكذا فمن خلال هذا السياق الذي تندرج تحته "آية النسخ" يتضح بجلاء أن ما تنسخه هذه الآية ليس ألفاظ آية من الآيات القرآنية بل النبوات والشرائع السابقة، ومن هنا كان الرسول محمد عليه الصلاة والسلام "َخَاتَمَ النَّبِيِّينَ". وبختم النبوة نسخت "الآيات" (المعجزات) الخارقة للعادة التي خص الله بها أنبياء سابقين. لقد نسخ الله تلك الآيات/ المعجزات واستقرت العادة، وصارت المعجزة العامة التي على جميع البشر أن يعتبروها هي تلك التي عبر عنها القسم الثاني من آية النسخ (أعلاه) والآية التالية لها، ذلك قوله تعالى يخاطب رسوله الكريم: "أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ". (للمقال صلة).