قال رئيس إحدى المنظمات الإسلامية البريطانية في مؤتمر لندني عُقد مؤخراً إن ما نسبته 80% من مجموع ما يقارب ستمائة إمام مسجد في بريطانيا، ينتمون إلى منظمته، لا يتحدثون الإنجليزية. وإنهم يُلقون خطبة الجمعة على المصلين بلغات آسيوية, الأوردو أو البنغالية أو العربية. يقدِّم هؤلاء نظرياً التوجيه الاجتماعي والديني والأخلاقي لشرائح عريضة, وربما الشرائح الأعرض, من مسلمي بريطانيا. وغالبية هؤلاء, كما قال المتحدث, هم من كبار السن ومن أصحاب التعليم والثقافة التقليدية واتصالهم بالتحديات المعاصرة التي يواجهها المسلمون هشة وسطحية. وهذه الأرقام التي أوردها المتحدث، وما يمكن أن يُستنتج منها، تُمثل كارثة حقيقية. وإن كان بالإمكان البناء عليها وتصور حال بقية أئمة المسلمين في أوروبا كلها وتقوقعهم على أنفسهم، فإن لنا أن نتخيل اتساع نطاق المأساة. لنا أن نتأمل في مصادر المعرفة والمعلومات ومنطق التحليل الذي يتبعه هؤلاء الأئمة في توجيه المُصلين, خاصة عندما يتصل الأمر بالقضايا الملحَّة المتعلقة بتعايش مئات الألوف من المسلمين في المجتمع البريطاني. إن كانت الكتب والكراسات والتفاسير التي يعتمد عليها أولئك الأئمة تأتي من "البلد الأم"، وقديمة وحبلى بالفتاوى التي تحملها الكتب الصفراء حول قضايا لم تعد تمت لعالم اليوم, فإن إحدى النتائج الطبيعية هي تخريج مسلمين في الغرب لا ينتمون لا إلى العصر الذي يعيشون فيه, ولا إلى المجتمعات التي ولدوا فيها. إن كانت ثقافة أولئك الأئمة إزاء النظر لغير المسلمين وطرائق التعامل معهم محكومة بفتاوى وتوجيهات وقراءات لا نعرف ما هي, ولم تواجه أوضاعاً للمسلمين في غير بلاد المسلمين، فلنا أن نتوقع حجم التطرف والأفكار الاستعلائية والتطهُّرية إزاء المجتمع الذي يحيط بالمتلقِّين. أما عن المعرفة المعاصرة ومعايشة الحاضر بتعقيداته فمن المشروع التساؤل عن الصورة والأفكار التي يتبناها هؤلاء الأئمة عن المجتمع الذي يعيشون بين ظهرانيه إن كانوا منقطعين عنه لغوياً وثقافياً، ولا يستطيعون متابعة حتى نشرات الأخبار الرئيسية اليومية فيه, ولا مطالعة صحفه المؤثرة. كيف بإمكانهم أن يفهموا تعقيدات السياسة والاجتماع والقضايا الملحة والانتخابات ودور اليمين واليسار، وأسباب بروز العنصريات وأوجه مواجهتها, ودورهم في تحفيزها, ومواقف الشرائح البريطانية المعتدل منها والمتطرف, إن كانوا يعيشون على هامش المجتمع. كم هو الضرر والدمار الذي ينتجه هؤلاء الأئمة في وسط الجالية المسلمة بسبب جهلهم وانغلاقهم على ثقافتهم ولغتهم وكتبهم ومصادر معرفتهم الدينية القاصرة بكونها لا تعالج ولا تتعرض للمسائل الحيوية والمعاصرة التي تواجه من يصلِّي خلفهم؟ يسمح الفضاء الثقافي والديني السائد في بريطانيا بديمومة الانغلاق الثقافي للجاليات الدينية والإثنية من خلال التمسك بقيم "التعددية الثقافية". وهي قيم تعتز بها التجربة البريطانية، أي بكونها تقوم على احترام معتقدات وثقافات الجاليات "غير البيضاء", وعلى أساس أن الهوية البريطانية الجامعة لهؤلاء جميعاً يجب أن تبقى فضفاضة وغير تدخُّلية. ومن شأن مثل هذه السياسة المتسامحة, كما تمضي نظرية "التعددية الثقافية" في التأكيد, أن تقود في نهاية المطاف إلى علاقات تعايش واحترام راقية بين مكونات المجتمع. ثم يكون من نتائج ذلك كله أن الحدود بين تلك الإثنيات وخصوصياتها الثقافية تتوقف عن الاتصاف بالصرامة والحدة, وتصير أكثر ليناً وتتداخل فيما بينها على قاعدة غياب أية منظومة قيم قسرية تفرضها المجموعة السكانية الأكبر على المجموعات والجاليات الأقل عدداً. ظلت نظرية "التعددية الثقافية" (خاصة في التجارب البريطانية والهولندية والأميركية) ذات حضور قوي في مواجهة نظريات أخرى حاولت "معالجة" مسألة الجاليات المختلفة إثنياً ودينياً عن المجتمع المضيف, إما عبر الدمج القسري أو سواه. غير أن التطورات التي حدثت في السنوات الأخيرة كشفت عن اختلالات كبيرة هزت الأسس النظرية التي قامت عليها تلك التعددية. فقد ظهر أن الجاليات الإثنية والدينية, وخاصة المسلمة, كانت تعيش في "غيتوهات" خاصة بها وبالكاد تتماس مع المجتمع المحيط. فتحت ستار الخصوصية الثقافية والمحافظة على العادات والتقاليد والقيم الدينية انكفأت هذه الجاليات على نفسها ولم يتطور لها حضور سياسي أو ثقافي أو فكري فعّال يمكن أن يوازي حجمها السكاني. وعاشت شرائح عريضة من المسلمين في انعزال شبه تام, مكتفية بأقل قدر ممكن من التواصل مع المجتمع البريطاني العريض. وفي كل مجال من المجالات التي يمكن التأمل فيها كان الحضور الإسلامي ضعيفاً على الدوام: في السياسة هناك إحجام فاضح عن المشاركة في الانتخابات سواء على مستوى البلديات أو مستوى البرلمان. في الفن والأدب هناك شبه غياب مطبق فالرموز الثقافية والأدبية القادمة من الجاليات المسلمة معدودة, وغالبيتها يُنظر إليها نظرة ريب وشك من قبل الجمهور العام للجاليات المسلمة. في الإعلام وعلى رغم شكوى المسلمين الدائمة حول الصور السالبة التي تقدمها بعض وسائل الإعلام البريطانية والغربية عن الإسلام والمسلمين فإن هناك كسلاً مخجلاً عن محاولة التأثير في هذا الإعلام ورفع الصوت, والاكتفاء بالتشاكي والتلذذ بشعور الضحية. في الاقتصاد والعمل لا يتناسب الإنجاز الاقتصادي لهذه الجالية مع حجمها, وأكثر ما يُعرف عنها أنها تسيطر على الحوانيت الصغيرة والخضروات ومطاعم الأكلات الشعبية السريعة. وبموازاة الكسل والإحجام الذاتي عن الانخراط العام في المجتمع البريطاني بفاعلية هناك نقد وشكوى دائمة من العنصرية وعدم العدالة والتشويه الإعلامي و"السيطرة الصهيونية واليهودية" على الإعلام والسياسة. صحيح طبعاً أن المناخ المتوتر الذي أناخ على الوجود الإسلامي في الغرب بعد إرهاب الحادي عشر من سبتمبر قد اشتغل لغير صالح المسلمين والعرب، وأضاف تعقيدات جديدة للمشكلات التي كانوا يشعرون بها. وصحيح أيضاً أن السياسة الخارجية لبريطانيا, هنا, وللدول الغربية الكبرى والخاصة بقضايا الشرق الأوسط، قد لعبت دوراً كبيراً في بعث التطرف عند الشرائح الشبابية في الجالية المسلمة. لكن لا يمكن موضوعياً نسبة كل العجز الذاتي الضارب أطنابه في أوساط هذه الجاليات إلى العوامل الخارجية, ولا إلى السياسة. خاصة وأن مجالات معارضة السياسة الخارجية البريطانية عبر المجالات القانونية والأحزاب والمظاهرات واسعة إلى درجة كبيرة، وغير متوفرة في أغلب إن لم نقل كل البلدان الإسلامية والعربية التي تنتمي إليها تلك الجاليات. لكن تظل البيئة الثقافية المنغلقة وعقلية الضحية والتوتر في العلاقة مع المجتمع الغربي هي المحرك الأساس. فثقافة "الغيتو" الإسلامي في الغرب هي التي تصدر عنها النظرة إلى المجتمع الغربي باعتباره مجتمعاً كافراً، وترسم طبيعة العلاقة الاستعلائية والابتعادية عنه من قبل الأئمة الذين لا يعرفونه أساساً ولا يفقهون لغته, والذين ينهلون من كتب وفتاوى القرون الوسطى ويطبقونها على مسلمي لندن ومانشستر وبيرمنغهام وبرادفورد. إذا فشلت نظرية "التعددية الثقافية" في بريطانيا وبقية الدول الغربية فإن المسلمين يتحملون جزءاً كبيراً من المسؤولية وهم ليسوا أبرياء أو ضحايا, هذا إلى جانب مسؤوليات الحكومات الغربية وسياساتها الخارجية والتيارات العنصرية الغربية الآخذة في الازدياد والاستقواء. Email: khaled.hroub@yahoo.com