قياساً على "غزوة منهاتن" و"غزوة الحمراء" وغيرهما من الغزوات "القاعديّة"، قامت "حماس" بغزوتها وكشّرت عن أنيابها في غزّة، وهي في الحكومة وفي السلطة وليست في المعارضة! قبل البدء في رصد الحدث، يجب أن نضع على الطاولة جملةً من الحقائق، الحقيقة الأولى هي أن "حماس" في فلسطين تمثّل جماعة "الإخوان المسلمين"، والحقيقة الثانية أنها لم تزل تدّعي أنها جماعة سلميّة في الداخل، ولا همّ لها إلا مقاومة المحتلّ، والحقيقة الثالثة أن قادتها لا يزالون يلقون الحفاوة والدعم المادي والمعنوي من بعض من يسمّون "مشايخ الصحوة" في الخليج، والحقيقة الرابعة أن العنف جزءٌ أصيلٌ من تكوين هذه الحركة، والحقيقة الخامسة أنها تلقى دعماً غير محدود من إيران وذراعها العربي سوريا. حسناً، هذه حقائق على الأرض، ولا أظنّ غزوة "حماس" الأخيرة تدع فيها -أو في أكثرها على الأقل- مجالاً لمجادلٍ، ولا مناورة لمناور، قتلٌ في الشوارع بلا حساب، استيلاءٌ بالقوّة المسلّحة وعبر الميليشيا على مؤسسات السلطة، محاولة اغتيال الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس، أبومازن، والتخطيط للانقلاب العسكري على السلطة، وقبل ذلك كان تهريب الأموال عبر الحدود، وتهريب السلاح للأردن والتخطيط لضربه! ماذا تريد حركة "حماس" الإخوانيّة؟ وإلامَ تسعى وتنهد؟ ما هدفها وما غايتها؟ أحسب أن إطلالة على تاريخ الجماعة الأمّ تدلّنا على تصرّفات الحركة البنت، بمعنى أن تاريخ "الأخوان المسلمين" يدلّ على تصرّفات حركة "حماس"، وأن تنظيرات قيادي ومنظري "الأخوان المسلمين" تمنحنا قدرة على تفسير تصرّفات "حماس" العنيفة والدمويّة. في عام 1940 عرض البنّا المؤسس والمرشد الأول لجماعة "الأخوان المسلمين" على خمسة أشخاص هم: صالح عشماوي وحسين كمال الدين وحامد شريت وعبدالعزيز أحمد ومحمود عبدالحليم إنشاء "نظام خاص" بمعنى جهاز عسكري تقوم الجماعة من خلاله بأداء بعض الأدوار السياسية العسكرية تجاه الاحتلال الإنجليزي والصهاينة في فلسطين –كما تبرر مصادر الجماعة-، ليكون أداة ردع لأعداء "الأخوان" داخل مصر وخارجها، وقد جعل البنّا على رأس هذا الجهاز شاباً في الجامعة، لم يتجاوز الحادية والعشرين من العمر اسمه "عبدالرحمن السندي". وقد قام "السندي" بعدد من العمليّات التي أحرجت جماعة "الإخوان" المسلمين، سواء كانت بعلم البنّا أو من دون علمه كما كان يدعي، فقتلت القاضي أحمد الخازندار، ورئيس الوزراء النقراشي، وقامت بعددٍ من العمليات العسكرية كحادث المحكمة، وحادث حامد جوده رئيس مجلس النوّاب، وإلقاء القنابل على النادي البريطاني وغيرها. "النظام الخاص" أنشئ ليصبح الذراع العسكرية لجماعة "الأخوان المسلمين"، وتستطيع من خلاله أن تؤدي كلّ المهامّ السريّة القذرة التي لا تستطيع الجماعة أن تعلن مسؤوليتها عنها، والتي يستطيع المرشد العام أن يتبرأ من تبعاتها في أيّة لحظة. ما أشبه الليلة بالبارحة، فأمام حجم الاستنكار الشعبي لمثل هذه الأعمال خرج المرشد العام حسن البنّا ليعبّر –وبشدّة- عن استنكاره لهذه الأعمال التي قام بها تنظيم تابعٌ له، تنظيمٌ بايعه على السّمع والطاعة في المنشط والمكره، وكتب مقالاً مثيراً بعنوان: "ليسوا بإخوان وليسوا بمسلمين"! وحين تفعل "حماس" أفعالها الإجرامية السابقة، والتي سبق لكاتب هذه الحروف مع غيره من المراقبين أن حذّروا منها وتنبّأوا بها في أكثر من مقالة، منها مقالة "أشعلها مشعل" ومقالة "بعدما أشعلها مشعل ناح على حرائقها"، حين تفعل "حماس"، ذلك فإن تاريخ الجماعة الأم، يخبرنا أن قيادات الحركة ستستنكر هذا كلّه، وستدعي أن لا علاقة لها بمثل هذه المخططات الإجرامية، وستتبرأ منها براءة الذئب من دم يوسف، تماماً كما فعل قادتها من قبل، أو أن هذه القيادات، ستلجأ إلى الدفاع اللاعقلاني عن تصرّفاتها، كما بدا في بعض التصريحات القليلة التي خرجت حتى الآن. لم يكن حسن البنّا وحده متورّطاً في تبرير العنف ضد المخالف، والسعي الى وصول للسلطة ولو بالقوّة، فالمرشد الثاني للجماعة، والذي كان يصنّف على أنه من "حمائم" الأخوان المسلمين -إن كانت لهم حمائم-، وهو حسن الهضيبي، في مقابل "صقورهم"، الذين كان يمثلهم "سيد قطب"، أقول إن حسن الهضيبي كاتب كتاب "دعاةٌ لا قضاة"، الذي حاول فيه التبرؤ من أفكار سيّد قطب التكفيرية وحاول النأي عنها، هذا الرجل ذاته هو من وافق وأخذ البيعة من كارم الأناضولي أحد المتهمين في تنظيم "الفنية العسكرية"، على أن يقوم هو وجماعته بالانقلاب العسكري، ويتبرأ منهم "الأخوان" إن فشلوا! وهذه حقيقة اعترف بها كارم الأناضولي في مذكراته، أخذ الهضيبي منه البيعة على اغتيال السادات والانقلاب عليه، السادات الرئيس، الذي دعم الجماعة في مقابل القوى السياسية الأخرى، وأصرت عليه زينب الغزالي أن يكتم بيعته هذه للمرشد، وأنهم إن نجحوا فالمرشد معهم، وإن فشلوا تبرأ منهم في العلن، تماماً كما تبرأ سلفه حسن البنّا من أعمال التنظيم الخاص وجرائمه، وتماماً كما سيتبرأ خالد مشعل من هذه الجرائم. وحتى نكون أقرب لتفسير الصورة من داخل الجماعة، فإن المرشد العامّ الحالي محمد مهدي عاكف، أعلن بنفسه أنّه كان عضواً في التنظيم الخاص، بمعنى أنه كان منخرطاً في عمليات التدريب المسلّح والتدريب على التشفير والتدريب على الاغتيال وغيرها مما ذكره محمود عبدالحليم في كتابه "الأخوان المسلمون" وغيره من المراقبين. والعذر اليوم هو ذات العذر بالأمس، "مقاومة المحتلّ في فلسطين"، تماماً، وكأن الأيام لا تعلّمنا، وأوابد الدهر لا تنبّهنا، فقد كان تبرير "الأخوان" لإنشاء التنظيم الخاصّ، هو مقاومة المحتلّ، وتبرير "حماس" لأفعالها الإجراميّة هو لمقاومة المحتلّ! ما يثير الانتباه هو أنّ ثمة حركةٌ غريبة، يلتقي فيها الفرقاء داخل التيارات الإسلامية السياسية في الجانبين الشيعي والسنّي، بين إيران و"القاعدة" مباشرة، وبين السروريّة التي تدّعي السلفية وتحارب من تسمّيهم الرافضة وبين "حماس" المدعومة من إيران رأس التشيّع في العالم، لقد تداعى علينا هؤلاء كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، يريدون إفناءنا وتدميرنا والقضاء علينا، سئمنا تبريراتهم وهم يخرجون علينا صباح مساء بوجوهٍ باسمة أمام الكاميرات، وخناجر مشرعةٍ خلفها، فإلى متى لا نعي ما يجري حولنا، ولا نميّز عدوّنا من صديقنا؟! في مجتمعاتنا –للأسف الشديد- شريحة كبيرة ممن يعجبها كلّ ناعقٍ بـ"حماس"، وكل صارخٍ بمقاومة، وكل هاتفٍ بجهاد، دون أن تتوقف لحظة لتسأل نفسها: ما الجهاد؟ وما المقاومة؟ وما الحقيقة فيهما من الزيف؟ ذلك أن الخطابات التي يبثها الناعقون والهتّيفة والشعاراتيّون تحوّل هذه الشريحة إلى ريشة بلهاء في مهبّ رياحها التي تنفخ، وترساً أحمق في مكنة مكائدها وبغضائها التي تبثّ، إنها شريحة أصبحت غداة أيديولوجية عمياء عاجزة عن أن ترى الواقع كما هو، أعشتها الأيديولوجيا وأوهامها الزائفة عن رؤية الواقع وتوازناته فضلاً عن حساب أرباحه وخسائره. ستعضّ "حماس" أصابع الندامة طويلاً على جريمتها التي اقترفت في حقّ القضيّة الفلسطينيّة برمّتها، وكشفت نفسها مبكّراً للرأي العام العربي، وما كان يُقال تنظيراً عن أهداف جماعات "الإسلام السياسي" والخراب الذي تسعى إليه، قدّمت له "حماس" نموذجاً مثالياً واقعيّاً، فكم في غزوة غزّة من الحكم والشواهد التي نتمنّى ألا تمرّ على الكثيرين مرور الكرام.