تهدد اللامبالاة التي تُقابل بها الولايات المتحدة الأزمة الإنسانية الناجمة عن الحرب في العراق بتقويض أي أمل متبقٍّ لتحقيق الأمن والسلم في المنطقة لسنوات، بل لعقود قادمة. فنزوح أربعة ملايين عراقي من ديارهم -ما يمثل نسبة واحد من بين كل سبعة- يعتبر الأكبر من نوعه الذي تشهده منطقة الشرق الأوسط منذ 1948. وعلى غرار التأثير الذي مارسته عملية نزوح الفلسطينيين عن ديارهم غداة قيام إسرائيل على السياسة والأمن في المنطقة، بل وفي العالم بأسره طيلة الستين عاماً المنصرمة، فإن تداعيات أزمة اللاجئين العراقيين سترخي هي أيضاً بظلالها على المجتمع الدولي لفترة طويلة. وعلى رغم أن صدام حسين تسبب في انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان، واقتلاع آلاف المواطنين من مناطقهم الأصلية، إلا أن الغزو الأميركي للعراق وتداعياته اللاحقة هيأ الظروف لبروز كارثة إنسانية ذات أبعاد كبيرة. لذا تتحمل الولايات المتحدة مسؤولية خاصة تجاه ضحايا الحرب الأهلية الدائرة رحاها في العراق، ويمكنها في هذا الصدد أن تستفيد من التجربة السورية للنهوض بمسؤوليتها إزاء الأزمة الإنسانية للاجئين العراقيين. فقد نزح حوالى مليونا عراقي عن منازلهم داخل حدود بلدهم، وهو ما يجعل وضعهم شديد الهشاشة والخطورة بسبب قربهم من العنف المستشري في العراق، فضلاً عن الصعوبات التي يواجهونها لتأمين الطعام والمأوى، ناهيك عن العراقيل التي تضعها الحكومات المحلية في المحافظات المختلفة لعجزها عن استقبال النازحين وإيوائهم بين سكانها. ويضاف إلى هؤلاء الذين مكثوا في العراق مليونا عراقي آخرون فروا من بلدهم طلباً للأمن في الدول المجاورة، التي لا تخفي خشيتها أيضاً من تأثيرات الحرب في العراق على أمنها الداخلي. فالعراقيون يتركون بلدهم خوفاً من العنف الطائفي المتنامي ومن عمليات الاختطاف، أو التورط في حرب عشوائية. واللافت في الأمر هو العدد الكبير من العراقيين الذين يغادرون بلدهم، حيث أشارت المفوضية العليا للاجئين التابعة للأمم المتحدة إلى أن 50 ألفاً يفرون من العراق كل شهر. وفي هذا السياق تجري مؤسسة "بروكينجز" دراسة شاملة تحلل وضعية اللاجئين العراقيين، وتركز في المرحلة الأولى على العراقيين المتواجدين في سوريا، والذين يقدر عددهم ما بين 1.2 و1.4 مليون شخص. ويفضل العراقيون الهرب إلى سوريا لأن هذه الأخيرة تفتح لهم أبوابها خلافاً للدول المجاورة الأخرى التي فرضت قيوداً شديدة على إجراءات منح التأشيرة، أو أنها تُسيِّر دوريات للمراقبة بالقرب من الحدود. لكن بالإضافة إلى ذلك هناك أيضاً عوامل اقتصادية وثقافية، فضلاً عن الروابط العائلية التي تدفع العراقيين إلى التوجه بأعداد كبيرة إلى سوريا تحديداً. هذا وتحف رحلتهم إلى سوريا مخاطر جمة، حيث أشارت الدراسة إلى قصص مريعة عن اللاجئين العراقيين الذين تروعهم الميلشيات، أو يضطرون لمواجهة جماعات إجرامية في طريقهم إلى سوريا. ويبقى أن العراقيين الذين يتوجهون إلى سوريا هم أقل فقراً من اللاجئين في مناطق أخرى من العالم، بحيث يعتمدون على مدخراتهم وما يملكونه من مقتنيات لتدبير أمورهم. لذا فإنهم بدلاً من البقاء في المخيمات يؤجرون شققاً في سوريا، وإن كانت ظروفهم تبقى صعبة إجمالاً. لكن مع نفاد مدخراتهم وإنفاقهم لما جلبوه معهم من مال فإن وضعهم قد يصبح بالغ الهشاشة، لاسيما في ظل عجز سوريا عن تحمل الأعباء المالية الثقيلة. فسوريا تسمح للعراقيين بإرسال أبنائهم إلى المدارس، كما تتيح لهم الاستفادة من التغطية الصحية في حالات الطوارئ والاعتماد على السلع الأساسية المدعومة من قبل الحكومة مثل الخبز والوقود. وقد أصبحت التكلفة الاقتصادية غير المباشرة مرتفعة جداً على سوريا في ظل الزيادة المهولة التي شهدتها أسعار الإيجار والمواد الغذائية. وبالنظر إلى ما يعبر عنه العراقيون أنفسهم من خلال اللقاءات التي أجريت مهم عن عدم نيتهم مغادرة سوريا في ظل الأوضاع المتردية في العراق فإنه من الواضح أن الأعباء الاقتصادية والإنسانية ستزداد على كاهل الدولة المضيفة. بيد أنه في الوقت الذي منحت فيه سوريا ملاذاً آمناً للاجئين العراقيين وفتحت أبوابها أمامهم، لا توجد لدى الولايات المتحدة أية استراتيجية متماسكة لتلبية الاحتياجات الإنسانية للعراقيين الهاربين من ويلات الحرب في بلادهم. فالمناقشات الدائرة حالياً في أميركا حول بلورة استراتيجية لخروج القوات الأميركية من العراق تستثني الإشارة إلى المسؤولية الأميركية تجاه المواطنين العراقيين العاديين، وتجاه الملايين الذين فقدوا أفراد أسرهم وبيوتهم وأمنهم وممتلكاتهم ومصدر رزقهم. ولا يعني ذلك أنه على الولايات المتحدة التحرك لوحدها لحل المشاكل التي يتخبط فيها اللاجئون العراقيون، بل إن ما يتعين عليها هو ضم جهودها إلى المنظمات الدولية من مفوضية اللاجئين العليا التابعة للأمم المتحدة والمنظمة الدولية للهجرة اللتين تعملان معاً لمد يد العون إلى النازحين داخل العراق. وفي هذا السياق يتعين على الولايات المتحدة أن تخص نفسها بحصة الأسد في تقديم الدعم المالي لتلك المنظمات الدولية، وتمويل المنظمات غير الحكومية التي تسهر على مساعدة العراقيين الذين لم يضطروا بعد إلى مغادرة ديارهم. كما يتعين على واشنطن أن توفر الدعم اللازم للمفوضية العليا للاجئين حتى تتمكن هذه الأخيرة من تخفيف العبء على الدول المضيفة مثل سوريا والأردن. والأكثر من ذلك يفترض بالولايات المتحدة أن تسمح لعدد أكبر من اللاجئين العراقيين الدخول إلى أراضيها في تحرك رمزي لمساندة الحكومتين السورية والأردنية. وإذا كانت الحكومة السويدية قد وافقت على منح 25 ألف عراقي اللجوء إلى أراضيها، كما تعاملت بسخاء مع عشرات الآلاف من العراقيين الذين وصلوا إلى حدودها، فلاشك أن الولايات المتحدة تتحمل مسؤولية أكبر تفوق ما تتحمله الحكومة السويدية لمواجهة الأزمة الإنسانية المستفحلة في العراق. إليزابيث فيريث باحثة بارزة ومديرة مشروع النازحين الداخليين في معهد "بروكينجز" الأميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست ولوس"