فؤاد عجمي: يمكن القول إن رجال "فتح" يمسكون بزمام الضفة في حين يسيطر رجال "حماس" المقنعون على الوضع في غزة. البعض ينظر لذلك على أنه وضع يمكن احتماله، بل وقد يرى أنه أفضل مما كان قائماً من قبل، حيث أصبح بمقدور الدولة التي تديرها "فتح" العلمانية أن تعيش بسلام جنباً إلى جنب إسرائيل، في الوقت الذي يتم فيه تطويق غزة الراديكالية الصغيرة المساحة بواسطة القوات الإسرائيلية. وعلى رغم أنه من المغري دائماً أن يتم البحث عن الخلاص وسط ركام الكارثة، إلا أن القول بأن ذلك يمكن أن ينطبق على الوضع الحالي في الأراضي الفلسطينية يعد وهماً من الأوهام. لقد تأخر الخراب الفلسطيني طويلاً قبل أن يأتي. فليس هناك شعب صاحب قضية نال ما ناله الفلسطينيون من تدليل على مدار نصف القرن الماضي، وهو ما رأينا آثاره بوضوح في ذلك التباهي بإظهار الشجاعة، وممارسة العنف عديم المعنى، وفي عجز الشعب الفلسطيني عن التصالح مع ظروفه واحتياجاته. حياة الفلسطيني هي حياة فاقة وبؤس، ومع ذلك يمارس زعماؤه لعبة السياسة وكأنهم قادة قوى كبرى. لقد كان من المعروف مثلاً أن التسوية مع إسرائيل أمر حتمي- على الأقل من ناحية المصلحة الذاتية والاحتياج السياسي- ولكن الفلسطينيين وفي تجربة ديمقراطية منذ 18 شهراً، قلبوا الكفة لمصلحة حركة "حماس"، التي تقوم هويتها على فكرة تدمير الدولة اليهودية وفرض الحكم الإسلامي مكانها. من القسوة البالغة الزعم بأن القول المأثور الذي يتحدث عن الشعوب تحصل على القادة الذين تستحقهم، ينطبق على الفلسطينيين. فعلى مدار أربعة عقود كاملة قبل مجيء حماس إلى السلطة، ظل ياسر عرفات يرفض إخبار شعبه عن أبسط حقائق حياته السياسية. وعلى الرغم من كافة النكبات والبلايا التي حلت بشعبه، فإنه كان يبدو على الدوام مرحاً وسعيداً على نحو مثير للاستغراب، كما لم يتوقف عن التجوال في أنحاء العالم ما رسخ في شعبه إحساساً زائفاً بأنه يمكن أن ينجوا من عواقب القرارات الرهيبة التي اتخذها. في لحظة لا تتكرر كثيراً، وضع القدر في نهاية التسعينيات رئيساً أميركيا في طريق عرفات هو بيل كلينتون، الذي كان متلهفاً على التعاطف مع الدعاوى الفلسطينية بمساعدة رجل دولة إسرائيلي هو"إيهود باراك"، الذي كان على استعداد أن يمنح الفلسطينيين أقصى ما يمكن أن تتحمله قوانين حركة دولة إسرائيل. ولكن عرفات استكثر على نفسه- على ما يبدو- أن يعود لشعبه وفي جعبته تسوية سخية ومشرفة، وأن يقول وداعاً للأبد لأسطورة أن الفلسطينيين يمكن أن يستعيدوا فلسطين كلها بحدودها التاريخية من النهر للبحر. بدلاً من ذلك رأى الرجل أنه من الآمن له أن يتماشى مع الأساطير السياسية لشعبه، بدلاً من أن يقبل بالمهمة الأكثر صعوبة، وهي مهمة ممارسة مهام رجل الدولة الذي يسعى لإنقاذ قضيته سياسياً. العرب من جانبهم فاقموا من بؤس الفلسطينيين، وقدموا لهم ما يريدونه من أسلحة وأموال، وهو ما أدى بهم بالتالي إلى الاعتقاد بأنه ليس هناك ما يدعو لشغل البال بحقيقة أوضاعهم واحتياجاتهم. وفي السنوات الأخيرة كان الخيار المطروح على الفلسطينيين واضحاً تمام الوضوح: إما الاستعداد لمراعاة مقتضيات الضرورة والتصرف كدولة، وإما اختيار تمثيل أدوار البطولة في أفلام قناة "الجزيرة". ووقع اختيار" أطفال الحجارة" وقادتهم على الخيار الثاني للأسف. وعندما توفي ياسر عرفات، انتقلت المسؤولية إلى رجل على قدر مناسب من التهذيب هو محمود عباس الذي جاء كقائد لمرحلة "ما بعد البطولات". عندما جاء الرجل كان قد تحرر من جنون العظمة الذي كان يتصف به عرفات، وبدا مستعدا لوضع حد لبركان العنف، كما وعد بأن يكون هناك" قانون واحد، وسلطة واحدة، وبندقية واحدة" في الشارع الفلسطيني. لكن المشكلة هي أن الرجل لم يكن أبداً سيد عالمه.. فعندما جاء الوقت الذي تولى فيه أمر الدفة السياسية للقضية الفلسطينية، كانت ثقافة الشعب الفلسطيني قد خضعت إلى نوع مروع من عبادة العنف. لقد وجد الشعب الفلسطيني نفسه في موقف صعب عندما فرض عليه الاختيار بين بديلين هما "فتح" و"حماس". فمنظمة "فتح" عندما فرضت عهد الفساد والغطرسة خلال السنوات التي دانت لها السيطرة في الضفة وغزة كانت هي التي منحت "حماس" السلطة وأفسحت لها الطريق للمناورات. ويجب علينا هنا ألا نبالغ في تقدير أهمية التمييز بين" علمانية فتح" و"إسلاموية" حماس لأن المنظمتين في الواقع لا تتميزان عن بعضهما في التصرفات في الشوارع التي تسودها القسوة ولا في معسكرات اللاجئين التي يسودها البؤس. من الخطأ الاعتقاد بأن غزة قد سُجّلت على أنها قد غدت منطقة نفوذ لـ"حماس"، وأن "فتح" قد أصبحت تمتلك منطقة نفوذها في الضفة الغربية لأن الفوضى والعنف والفساد قد دمر الاثنتين معا. فمدينة نابلس في الضفة لا تقل بعداً في المنطق عن غزة وذلك بعد أن أصبحت أوامر الوعاظ والمسلحين القساة هي القانون السائد في المدينتين. ليس هناك من سبيل لتبلور وضع طبيعي في الضفة الغربية في نفس الوقت الذي تغرق فيه غزة في الفوضى.. كما أنه ليس هناك من عصا سحرية لعلاج الفلسطينيين وتعليمهم فضائل الواقعية والتعقل. إن صعود "حماس" في غزة يجب أن يكون محوراً لاهتمام قادة الدول الكبرى في العالم العربي لأن القضية الفلسطينية التي اتخذوا منها طويلاً ذريعة لصرف انتباه شعوبهم عن بؤسها الداخلي أصبحت كابوساً لهم بامتياز. لقد اعتاد الشعراء العرب أن يكتبوا قصائد تمجيد لأطفال الحجارة والقنابل البشرية، ولكن صوت الشعر خفت الآن وحل محله اعتراف صامت بالمرض الذي ابتلي به الفلسطينيون. فهناك اعتراف متزايد بين العرب بشكل عام- باستثناء الأكثر تعصباً منهم- بعمق الأزمة الفلسطينية. وهناك اعتراف مماثل شبه عام في إسرائيل- باستثناء بعض اليساريين الرومانسيين ربما- بخطورة حركة "حماس" التي لا تبعد عنهم سوى مرمى حجر. لقد كان رابين- وكل ورثته في الحقيقة وإن بدرجات متفاوتة- قد قبلوا بإقامة دولة فلسطينية، ليس هذا فحسب بل كان هناك تيار تبلور في الشعب الإسرائيلي. تيار يشعر بفضول عميق للتعرف على الفلسطينيين وعلى تراثهم وثقافتهم الشعبية وعلاقتهم بالأرض المقدسة. أما الآن فإن كل ذلك قد ذهب، وليس هذا فقط، هو ما ذهب بل إن المجتمع الفلسطيني برمته قد ذهب إلى حيث لا يجرؤ صناع السلام والشعراء الرومانسيون أن يضعوا أقدامهم. فؤاد عجمي أستاذ الدراسات الدولية المتقدمة في مدرسة "جون هوبكنز" ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"