بعد انتهاء العام الدراسي بلا شك أن هناك حديثا، لابد أن يدور حول التعليم، فإذا كان هذا الحديث عبارة عن ملاحظات الميدان التربوي والانتقادات، التي يمكن أن توجه إلى سياسة التعليم في الدولة، فإنني افترض أنها طرحت في جلسة المجلس الوطني الاتحادي يوم أمس. أما التوصيات والحلول، فيفترض أيضاً أنها كانت واضحة من خلال التقرير الذي رفعته لجنة شؤون التربية والتعليم والشباب والإعلام والثقافة في المجلس الوطني، التي شملت أربعة محاور هي البنية التحتية للتعليم، والموارد البشرية ومعايير تقييم الأداء، والمناهج والخطط التعليمية، والطلبة- ... أما الرد على كثير من الملاحظات، فاعتقد أنها كانت واضحة من خلال حوار معالي الدكتور حنيف حسن وزير التربية والتعليم، الذي نُشر في صحيفة "الخليج "يوم أمس أيضاً. أما الحديث الذي نحن بصدده، فهو مجرد حديث عن مرحلة جديدة من التعليم في الدولة، تواكب العصر ومتطلبات المجتمع. فمن الواضح أننا نمر بمرحلة مهمة بالنسبة للتعليم، البعض يحب أن يطلق عليها مرحلة "إصلاح التعليم"، وآخرون يفضلون كلمة "تطوير التعليم" وأياً كانت المسميات والمصطلحات، تبقى النقطة الجوهرية في المسألة، وهي أن التعليم بدأ يأخذ اهتماماً أكبر بكثير مما كان يلاقيه في تعليم الماضي الذي كان تعليماً قائماً على التلقين والحفظ وعلى نظريات قديمة تجاوزها الزمن. بعد ثورة الاتصالات والمعلومات الهائلة التي يشهدها العالم، والانفتاح الاقتصادي العالمي القائم على المعرفة، والتنافس المحموم بين دول العالم وانعكاس كل ذلك على سوق العمل وعولمته، وفي عصر زالت فيه الحدود بين البلدان، شعرت دول العالم بأهمية امتلاكها نظماً تعليمية حديثة، تواكب التغيرات، وتخرج أجيالاً بمواصفات عالمية قادرة على العطاء والمنافسة ليس محلياً وإنما عالمياً... التغيرات الأخيرة أثرت بشكل مباشر على الدول ومنها دولتنا بطبيعة الحال، وصار من الطبيعي أن يتم التعامل مع تلك التطورات بطريقة علمية ومنهجية. وبلا شك أن المدارس ومنهاج التعليم أحد أهم الوسائل لذلك، كما صار من المهم أن تواكب مناهجنا التعليمية هذه التطورات، وأن تكون في صلب الحدث حتى لا تخرج مدارسنا أجيالاً من الطلبة الذين يعيشون بعيداً عن واقعهم. في الإمارات كان الاهتمام بالتعليم دائماً من أولويات الدولة، ومع التطورات الأخيرة في المنطقة، صار التعليم جزءاً لا يتجزأ من استراتيجية دولة الإمارات التي تم الإعلان عنها مؤخراً، من أجل تحقيق تنمية مستدامة ومتوازية، ومن أجل توفير الرقي والرخاء للمواطنين. وكذلك من أجل مواكبة التغيرات الاقتصادية التي تشهدها الدولة، لنتمكن من تعزيز مكانة الدولة إقليميا وعالمياً... على الرغم من أن الدولة أنفقت على مدى العقود الماضية عشرات المليارات من الدراهم على التعليم، فإن مردود ذلك التعليم كان دون مستوى الطموح ، ليس السبب في قلة الموارد المالية، إنما بسبب التنفيذ والمتابعة والتطبيق. لذا أصبح واضحاً لكل مراقب أن الدولة عازمة على أن لا تضيع الجهود والأموال التي توضع في التعليم كما حدث في السابق، وهي مصرة على أن تكون نتائج التعليم في مستوى ما تحققه الدول المتقدمة... وهذا ما نتمنى أن يحدث. في مقابل اهتمام الدولة بالتعليم، فإنه صار من الواضح أن اهتمام أولياء الأمور في الإمارات بمسألة تعليم أبنائهم أصبح كبيراً، بل هو من الأولويات التي لا يساومون عليها، وصار اختيار المدرسة المناسبة –وإن كانت ذات تكاليف عالية- واحدة من أولويات الأسرة الإماراتية، التي تؤمن بأن التعليم هو أهم سلاح لأبنائها لمواجهة تحديات الحياة، والحصول على فرص عمل جيدة في المستقبل... وهذا تطور ايجابي في النظرة للتعليم وأهميته بالنسبة للفرد أو الدولة ويجب تشجيع المواطنين عليه. في ظل التوجهات الجديدة للحكومة وتطبيق القانون الجديد للاستثمار، والذي يجيز للأجانب تملك مائة بالمائة من أسهم شركاتهم– من ضمنها المدارس الخاصة والمستشفيات- فإننا نتوقع أن يؤدي ذلك إلى تحسن أوضاع التعليم من خلال وجود خيارات عديدة ومتنوعة لأولياء الأمور، بحيث لا يقعون في مصيدة الاضطرار إلى وضع أبنائهم في مدارس، هم غير مقتنعين بها، وغير متأكدين من أنها تقدم لهم المستوى المطلوب من التعليم.... فالعملية التعليمية صارت بحاجة إلى التنوع، الذي يوفر للمواطن بدائل تربوية مختلفة مع الالتزام بمعايير ثابتة لمستوى الأداء حيث... الأمر الذي يمنح أولياء الأمور الفرصة والحق في اختيار المدارس التي تتناسب ورغبات أبنائهم. وأتمنى ألا يخرج علينا بعض المسؤولين والتربويين الذين يرفضون أية فكرة جريئة لتطوير التعليم أو خصصته– بمعنى آخر تغيير الوضع الحالي- ويعارضون هذه الأفكار دون مبررات قوية، وفي الوقت نفسه، نجد أن أغلبهم إن لم يكن جميعهم يلحقون أبناءهم بمدارس خاصة ومدارس أجنبية! فهذا التناقض الغريب والرفض المشبوه لفكرة هم يمارسونها أمر لم يعد مقبولاً، فيفترض أن يتم دعم الأفكار الجديدة إنْ كانت جيدة وإبداء الملاحظات الموضوعية والهادفة إنْ كانت تلك الأفكار بها شوائب أو نواقص، فالتعليم صار بحاجة إلى "ثورة حقيقية"، حتى نتمكن من ملاحقة دول العالم ومجاراتها في التقدم والتحديث. العلاقة بين التعليم والاقتصاد صارت وثيقة، والتعليم صار الأساس لبناء مجتمع قادر على مواكبة التطورات العلمية والتكنولوجية... وفي المقابل بلا شك أن المجتمع يتوقع من التعليم الجيد أن ينتج مواطنين صالحين، كما أنه يحافظ على الهوية الوطنية فضلاً عن انه يؤدي إلى تنمية اقتصادية واجتماعية وثقافية. وبطبيعة الحال، فإن إصلاح أو تطوير التعليم وأسلوب تطبيقه، يؤثران بشكل مباشر في تنمية المشاريع الاستثمارية الطموحة في أية دولة، ويعتمد إثراء الاقتصادات بصفة رئيسية على تطوير التعليم. أما التعليم الحالي التي تشهده كثير من دول المنطقة فهو يعتبر تعليما دون الطموح لأنه يؤدي بشكل مباشر إلى ضعف كفاءة أسواق السلع وضعف أسواق العمل فضلاً عن عدم تشجيعه للقدرات الإبداعية للتعبير عن نفسها، وهذا يؤدي إلى اقتصادات ضعيفة ومتراجعة بشكل مستمر، وهذا ما تعاني منه كثير من الدول العربية... أما مخرجات التعليم، فمن الواضح أنها غير قادرة على تلبية احتياجات سوق العمل، وهناك بطالة في كثير من الدول العربية ومن المتوقع أن يصل عدد الباحثين عن فرص عمل في دول الخليج فقط، خلال العقد القادم إلى 7 ملايين شخص. الباحثون والتربويون توصلوا إلى اتفاق خلاصته "عدم اعتبار التعليم كياناً حكومياً بأكمله، ولا كياناً خاصاً، لذا ظهر في أدبيات التربية الحديثة مفهوم الشراكة التربوية، التي تزاوج بين أدوار كل الفاعلين في العملية التربوية، بما في ذلك الحكومة والقطاع الخاص وأولياء الأمور والطلاب والمعلمون والأسرة والمجتمع والوسائط الإعلامية ومؤسسات المجتمع المدني وكل المهتمين بالعملية التربوية، حتى يصار التعليم مسؤولية الجميع"... ويبدو أن هذه الآراء تلقى قبولاً كبيراً حتى بين أولياء الأمور، الذين صاروا يولون اهتماماً أكبر بالتعليم، وهو اهتمام يتزايد يوماً بعد يوم. إننا بحاجة إلى مدارس قادرة على تطوير قابلية التعلم وقادرة على تحفيز قدرات الطلبة الابتكارية، وقادرة على إكسابهم المهارات الرئيسية مثل التفكير النقدي، وحل المشكلات واتخاذ القرارات والإبداع، والقدرة على استخدام التقنيات الحديثة، والتواصل معها بفاعلية، فضلاً عن قدرتها على تلبية احتياجات سوق العمل وتنشئة مواطنين يشاركون بفاعلية في تنمية أوطانهم... لذا فإن الارتقاء بمستوى الطالب والمدرسة بما يتفق مع توقعات المجتمع صار أمراً مهماً، بل ومطلباً مجتمعياً... كما أن التأكيد على جعل الطالب محور العملية التعليمية، صار من الأمور التي تسعى إليها جميع الأنظمة التعليمية في جميع الدول التي تسعى إلى تخريج كوادر متميزة وقادرة على التنافس في سوق العمل. والدول التي تسعى للانتقال إلى مرحلة جديدة من حياتها. محمد الحمادي كاتب وصحافي-الإمارات