هل انقلاب "حماس" في غزة الأسبوع الماضي حدث شاذ ؟ هل هو حدث مرفوض؟ الإجابة السريعة هي نعم كان حدثاً شاذاً، ومرفوضاً في الوقت نفسه، لأنه يتصادم مع بديهيات الوحدة والمصلحة الفلسطينية. لكن الإجابة غير المتسرعة ستقول لك بأنه إذا كان انقلاب "حماس" مرفوضاً، هو كذلك لأنه يقسِّم المقسَّم، ويضع القضية الفلسطينية في مهب الريح. الصراع الفلسطيني- الفلسطيني يُفقد القضية رمزيتها، ويقود إلى تآكل بعدها العربي لتصبح قضية الفلسطينيين أولاً وقبل كل شيء. وهذا مرفوض. لكن هل ما حدث شاذ أم حالة استثنائية؟ أبداً. السياق التاريخي لأكثر من ثلاثة عقود في عمر العالم العربي يؤكد ذلك. ليس فقط لأن مخاوف التقسيم هي من أهم سمات الثقافة السياسية العربية في العقود الثلاثة الأخيرة. وليس فقط لأن حالات عربية مهددة بالتقسيم سبقت انقلاب "حماس". هناك سبب آخر ولا يقل أهمية، وهو شلل النظام الرسمي العربي، وانعدام قدرته على فعل شيء يضع حدا لانهيارات تتخطَّف العالم العربي. هذا العالم يمر بحالة تفسُّخ غير مسبوقة. ما حدث في غزة ليس إلا صيغة أخرى عن حالة التفسخ ذاتها. يكاد ما حصل يكون هو الصيغة ذاتها: اختلاف بين تنظيمين لكل منهما برنامجه السياسي انتهى حتى الآن إلى تقاسم للسلطة. قد تتعمق هذه الصيغة وتنتهي إلى تبلور حكومتين لشعب واحد، كله تحت الاحتلال. ما هو موقف الدول العربية من ذلك؟ شجب ما حصل لا يكفي، ولا يقول شيئاً في الأخير. هل يملك النظام الرسمي العربي أن يتخذ موقفاً واضحاً مما حدث؟ ثم هناك احتلال العراق وعودة الاستعمار إلى المنطقة. هذه صيغة أخرى. هذا العراق الآن، وهو تحت الاحتلال الأميركي مهدد بالتقسيم. هل هو بالفعل كذلك؟ لا أحد يستطيع الجزم بشيء هنا؟ وهل سيحدث هذا عاجلاً أم آجلاً؟ أم لن يحدث، حتى ولو على الأرجح؟ هل هناك خطط لمواجهة ما قد يستقر عليه مستقبل العراق؟ المؤسسات الرسمية لا تستطيع المجازفة بموقف علني حول هذا الموضوع. كل ما هنالك هو التمنِّي، تمني الأفضل، وأن ذلك ليس على الله بعزيز. لكن في الوقت نفسه، على الجميع أن يتوقع الأسوأ. بعبارة أخرى، نحن أمام حالة ارتباك مركبة، وتخبُّط واضح. في مثل هذه الحالة لا يحتاج الناس إلى المؤسسات الرسمية أن تقول لهم ماذا تفعل. بحكم الغريزة والتجربة المريرة تعلم الناس أن يتوقعوا الأسوأ. وعندما تتساوى المؤسسات الرسمية، أو مؤسسات الدولة وهي مخزن المعلومة والخبرة، مع الناس في توقعاتها ومرئياتها، فهذا يعني أن هذه المؤسسات فقدت فعاليتها، وربما فقدت دورها. الأزمة السياسية الخانقة في لبنان نشرت بين اللبنانيين الخوف من تحقق ازدواجية سياسية تبعث من جديد فكرة الكانتونات أو الفيدرالية. بل إن الرئيس اللبناني السابق، أمين الجميل، ألقى الأسبوع الماضي خطاباً دافع فيه عن حق المسيحيين في مواجهة الطوائف الأخرى. السودان يمر بعملية سياسية تحمل في داخلها بذور وأدوات التقسيم؟ المغرب دخل لتوه مرحلة جديدة من المفاوضات مع منظمة البوليساريو حول مستقبل إقليم الصحراء المغربي. الاستثناء كان ولا يزال اليمن. كان منقسماً إلى شمال وجنوب، فتم توحيده بقوة السلاح. في كل هذه الحالات، بما فيها اليمن، يقف النظام الرسمي العربي ممثلاً بالجامعة العربية عاجزاً ومشلولاً أمام الأحداث. لا يملك شيئاً إلا عقد الاجتماعات، وإصدار بيانات وتصريحات رمادية، لا تقول شيئاً، وبالتالي لا تقدم ولا تؤخر. لا يملك هذا النظام آلية سياسية أو قانونية أو عسكرية لمواجهة واقع الأزمة كما هي، وكما تحصل وتتفاعل، ولمواجهة أطراف الأزمة، وفرض الحلول في نهاية المطاف.. خذ مثلاً الأزمة اللبنانية. عمرها الآن أكثر من سنتين، وتزداد تعقيداً. انفجرت على خلفية اغتيال كبيرة لرئيس الوزراء السابق، رفيق الحريري، ثم سلسلة اغتيالات لم تتوقف حتى الآن. تتهم أطراف لبنانية كثيرة سوريا؟ هل تستطيع الجامعة، أو أية دولة عربية مواجهة أي من أطراف هذه الأزمة، بما فيهم سوريا، بحقيقة مرئياتها؟ هل تملك اقتراح حلول واضحة، حتى ولو كانت لصالح طرف على آخر، غير آبهة بتهمة الانحياز؟ الثقافة السياسية العربية تقول بغير ذلك: بالاعتدال، والوسطية، ومسايرة ومجاراة الجميع، مراعاةً لمصالح كل الأطراف. صحيح أن هذه وصفة للشلل، وأن الشلل هو السمة الغالبة في العالم العربي، منذ انتهاء ما كان يعرف بالحرب العربية الباردة في خمسينيات وستينيات القرن الماضي. لكنها الوصفة الوحيدة الممكنة في ظل ضعف الدولة العربية، ضعفها السياسي، والقانوني، والعسكري. لا أحد يملك القدرة، أو الدافع، أو المصلحة في الصِّدام مع الواقع القائم. حتى موضوع المحكمة المطلوبة لبنانياً لمحاكمة المجرمين كان لابد من فرضها من الخارج، ولابد أن تكون محكمة دولية، وخارج العالم العربي حتى يمكنها القيام بدورها بمنأى عن الأجواء والتعقيدات السياسية العربية. في غزة تتهم "حماس" فريقاً داخل "فتح" بـ"العمالة" لإسرائيل وأميركا. والمقصود هنا فريق النائب محمد دحلان. هذا لا يبرر لـ"حماس" الانقلاب على السلطة، إلا أن هذا ما حدث. ماذا لدى الجامعة أن تقوله في ذلك؟ من الواضح أن قيادة "حماس" أخذت السياسة والقانون في يدها، وقررت ما يجب أن يكون، وأن تفرضه كأمر واقع على الجميع. هل هناك مبرر لما قامت به؟ الجامعة تتمسك بشرعية السلطة ورئاسة "أبو مازن" لها، لكنها لا تقول شيئاً عن "حماس" تحديداً. من الأفضل أن تبقى الأبواب، جميع الأبواب مفتوحة. إذا كان الماضي دليلاً، فإن مهمة لجنة تقصي الحقائق ستنتهي إلى ما انتهت إليه مهمات قبلها. أيام صدام حسين كان النظام الرسمي العربي عاجزاً عن التعامل معه. لا يستطيع مواجهته لا عسكرياً، ولا سياسياً، ولا حتى إعلامياً. أحيراً جاءت أميركا وخلصت العرب من صدام حسين. ثم اكتشف العرب أن وقت صدام كان أفضل مما حصل بعده. الدرس ليس هنا، وإنما في من قرر أن يتخذ موقفاً، ويلتزم به. لهذا السبب لا تعطي أطراف الحدث أو الأزمة في هذا البلد العربي أو ذاك وزناً كبيراً لجهود الجامعة العربية. كل ما تملكه الجامعة هو ما تبقى لها من وزن أخلاقي باسم العروبة، والتضامن العربي. حتى هذه تزداد الثقوب في قماشتها بشكل لا يترك مجالاً لمؤسسة الجامعة بترقيعها. جهود بعض الدول العربية التي تحاول التدخل لإيجاد حل أو مخرج من هذه الأزمة أو تلك تنتهي إلى النتيجة نفسها. ومثال الدور المصري مع الفلسطينيين أوضح من أن يتطلب تفصيلاً هنا. مرة أخرى، الاقتتال بين "فتح" و"حماس"، ثم انقلاب "حماس" وسيطرتها على غزة، حصل والوفد المصري موجود في القطاع. بل إن انقلاب "حماس" حصل بعد أربعة أشهر من "اتفاق مكة". أي أن الاقتتال، ثم الانقلاب حصل وحبر الاتفاقية لم يجف بعد، وحصل بعد تعهدات وإيمان مغلظة قطعها المتفقون على أنفسهم أمام الكعبة بألا يقتتلوا بعد اليوم. فعلوا ذلك في مكة المكرمة، وأمام العرب والمسلمين. ماذا يعني هذا؟ ربما أن الأمر أسوأ من ذلك بكثير. الأزمات العربية أصبحت في الآونة الأخيرة تتوالد من دون توقف. دماء لا يتوقف نزيفها، وأزمات سياسية يؤدي بعضها إلى رقاب بعض، والمؤسسات السياسية العربية، بما فيها الجامعة العربية، ومؤسسة القمة العربية، تبدو مشلولة لا تستطيع فعل شيء. توالد الأزمات من دون توقف، وشلل المؤسسات السياسية، وانتشار الخوف والقلق، يؤدي إلى انهيارات سياسية، ربما بطيئة ومتدرجة، لكنها مستمرة. وهذه العملية لابد أن تطال الدولة في الأخير، وهو ما يحصل في العراق ولبنان وفلسطين والصومال. هذه صورة واضحة لحالة تفسخ تعتمل في المنطقة. ليس غريباً والحالة هذه أن المليشيات هي الأقوى والأكثر فعالية في بعض البلدان العربية هذه الأيام. ومن الطبيعي أنه عندما تضعف الدولة، وتتآكل شرعيتها وتضعف سلطتها، يحدث فراغ تملؤه قوى وتنظيمات تأخذ في مبتدئها شكل الحزب والمليشيا. من الخطأ في ظروف المنطقة الحالية الاطمئنان إلى أن حالة التفسخ هذه يمكن أن تقف عند حدودها الجغرافية الحالية. استمرار حالة الشلل العربي تنبئ بأن هذه الظاهرة قابلة ليس فقط للتعمق، بل قابلة للتوسع كذلك.