مكتظ بالسكان، ويعيش معظم أبنائه تحت خط الفقر... سمتان أساسيتان لقطاع غزة، الذي تصدرت أنباؤه وسائل الإعلام العالمية خلال الآونة الأخيرة، بسبب الاقتتال الفلسطيني- الفلسطيني داخله، وما تلاه من تطورات خطيرة. فماذا عن الأبعاد التاريخية والجغرافية لهذه البقعة المضطربة من الوطن الفلسطيني؟ يعود تاريخ غزة إلى ثلاثة آلاف عام، وتتمتع بموقع استراتيجي على البحر المتوسط. ويُقال إن الإمام الشافعي ولد فيها في القرن الثامن الميلادي. وتشير الدراسات التاريخية إلى أن غزة كانت مدينة مهمة في القرن الخامس عشر قبل الميلاد، والدليل على ذلك استخدامها كقاعدة حربية مصرية في عهد الملك تحتمس الثالث. وفي أوقات لاحقة كانت غزة تابعة للبيزنطيين. المدينة وقعت تحت الاحتلال الآشوري خلال القرن الثامن قبل الميلاد، ومن القرن الثالث إلى القرن الأول قبل الميلاد، شهدت تنافساً مصرياً سورياً عبرياً من أجل احتلالها. وفي القرن السابع الميلادي كانت غزة مدينة إسلامية مقدسة. حكمت الإمبراطورية العثمانية غزة لمئات السنين، إلى أن اندلعت الحرب العالمية الأولى، التي أصبح القطاع بعدها خاضعاً للانتداب البريطاني، وخضع لسيطرة مصر إبان حرب 1948. ازداد عدد سكان القطاع بشكل واضح خلال عامي 1948 و1949 حيث استقبل القطاع البالغ عدد سكانه آنذاك 80 ألف نسمة 25% من اللاجئين الفلسطينيين أو قرابة 200 ألف لاجئ، ممن تركوا ديارهم جراء حرب 48، ومعظمهم من يافا أو من مدن وقرى جنوب يافا ومنطقة بئر السبع. توجد في القطاع ثمانية مخيمات هي (جباليا والشاطئ والبريج والنصيرات والشابورة ودير البلح وخان يونس والمغازي)، علماً بأن الكثافة السكانية داخل هذه المخيمات هي الأعلى في العالم، إذ تصل إلى 55500 نسمة في الكيلو متر المربع. وإبان خضوعه للإدارة المصرية، وذلك بموجب اتفاقية الهدنة التي أبرمت عام 1949 بين العرب وإسرائيل، كان القطاع أرضاً خصبة لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي. وفي عام 1956، وخلال العدوان الثلاثي على مصر أو ما يعرف بـ"حرب السويس"، كان القطاع مسرحاً للمواجهات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وانسحبت إسرائيل من القطاع في عام -وسلمته في مارس 1958 إلى قوات الطوارئ الدولية ثم استعادت مصر السيطرة على الإدارة المدنية للقطاع. لكن إسرائيل احتلت غزة ثانياً بعد حرب يونيو 1967. وخلال الفترة من 67 إلى 1970، نشط فدائيو منظمة التحرير الفلسطينية داخل القطاع. غير أنه في مطلع السبعينيات، بدأ المستوطنون اليهود الانتقال إليه، وفي الوقت ذاته شن الجيش الإسرائيلي هجمات على مخيمات القطاع، بعدها شهدت غزة هدوءاً نسبياً استمر خلال عام 1972. وتجدر الإشارة أيضاً إلى أن أول انتفاضة فلسطينية في غزة بدأت في ديسمبر 1987، عندما صدمت شاحنة أربعة عمال فلسطينيين عند معبر "إيريتز". يمتد القطاع على مساحة قاحلة عند الطرف الجنوبي الشرقي للبحر المتوسط، تبلغ 378 كيلو متراً مربعاً بشريط ساحلي طوله 45 كيلو متراً، وول حدود القطاع مع مصر يصل إلى 11 كيلو متراً وطول حدوده مع إسرائيل يصل إلى 51 كيلو متراً. عدد سكانه 1.5 مليون نسمة، 75% منهم تقريباً لاجئو حروب سابقة شنتها إسرائيل على الأراضي الفلسطينية، ويعاني ما يزيد على 50% من سكان القطاع من البطالة، نتيجة الأوضاع الأمنية الناجمة عن الاحتلال، مما يعوق انتقال الباحثين عن عمل ويعرقل التجارة. يعيش سكان القطاع في 44 تجمعاً سكانياً أهمها: مدينة غزة ورفح وخان يونس وجباليا ودير البلح، وبكثافة سكانية تصل إلى 26400 مواطن في الكيلو متر المربع. علماً بأن مدينة غزة تعد التجمع السكاني الأضخم، إذ يعيش فيها 400 ألف نسمة، وهي مركز تجاري وإداري لكافة الأراضي الفلسطينية المحتلة، وذلك رغم القيود الإسرائيلية المفروضة على الانتقال بين الضفة والقطاع. وتأتي خان يونس ورفح بعد غزة من بين أهم التجمعات السكانية في القطاع. وبعد اتفاقات أوسلو 1993 وما تلاها من تشكيل سلطة وطنية فلسطينية تتمتع بسلطات حكم ذاتي محدودة في عام 1994، شهدت غزة بعضاً من الرخاء، لاسيما في أواخر التسعينيات نتيجة تنامي حركة التجارة وفرص العمل داخل إسرائيل. وبموجب اتفاقات واي بلانتيشن 1998، سمحت تل أبيب بإنشاء مطار دولي في القطاع في رفح، لكنه أغلق بعد عدة أشهر من اندلاع الانتفاضة الثانية، وقد دمرته إسرائيل على غرار العديد من البنى التحتية الفلسطينية. ومع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000، نشطت فصائل المقاومة داخل القطاع، وشن الجيش الإسرائيلي عمليات عدة ضد نشطاء فلسطينيين داخل غزة، مما أسفر عن سقوط مئات المدنيين الفلسطينيين وتشريد الآلاف، ضمن سياسة إسرائيلية تهدف إلى منع النشطاء من الاختباء في ملاذات آمنة. وفي فبراير 2005 صوتت الحكومة الإسرائيلية على تطبيق خطة رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق أرييل شارون التي تقضي بانسحاب أحادي من غزة وإزالة جميع المستوطنات والقواعد العسكرية الإسرائيلية من القطاع، واكتملت عملية الانسحاب في 12 سبتمبر 2005 بعيد إعلان إنهاء الحكم العسكري في القطاع. إسرائيل أقامت في غزة 23 مستوطنة كان يسكنها قرابة 8 آلاف يهودي، وتم إخلاء هذه المستوطنات وهدمها ضمن خطة الانسحاب من القطاع، لكن إسرائيل لم تزل آثارها حتى الآن. وبعد الانسحاب أرادت إسرائيل الاحتفاظ بالسيطرة على حدود القطاع مع مصر، خاصة طريق (فلاديلفي/ صلاح الدين)، لكنها فشلت وتسلمت القاهرة مسؤولية هذه الحدود، على أن تتمتع إسرائيل برقابة مرئية فقط لمعبر رفح دون أن تكون لها سلطة منع أشخاص من عبوره. معبر رفح هو المنفذ الوحيد غير الخاضع للسيطرة الإسرائيلية المباشرة، الذي يربط القطاع بالعالم الخارجي، وهو مفتوح للمشاة، ويُستخدم في تصدير البضائع من القطاع. وتدخل البضائع المصرية إلى القطاع من معبر "كيريم شالوم"، وتدخل البضائع من إسرائيل إلى القطاع مروراً بمعبري "صوفا" و"كارني". أما معبر "إيريتز" الموجود بشمال القطاع، فهو معبر الانتقال الرئيسي بالسيارات من غزة إلى إسرائيل، ويستخدمه الفلسطينيون الذين يعملون داخل إسرائيل، غير أن الجيش الإسرائيلي غالباً ما يغلق معابر نقل البضائع بحجج أمنية. ومنذ يناير 2006، وعلى إثر الحصار الإسرائيلي والعزلة التي عانت منها الحكومة الفلسطينية بقيادة "حماس"، تردت الأوضاع داخل القطاع الذي يعاني أصلاً من الفقر والبطالة، وجاء الاقتتال الفلسطيني- الفلسطيني منذ بضعة أيام ليفاقم محنة سكان القطاع ويضع سكانه أمام مفترق سياسي وأمني خطير. طه حسيب