المشاهد في قطاع غزة تُذكِّر بتلك التي رأيناها كثيراً من قبل. إنها مشاهد أصبحت جد معتادة إلى درجة أنها باتت تحدد صورة الواقع الفلسطيني في المخيال الغربي: رجالٌ مقنَّعون يتمترسون وراء الجدران، يطلقون نيران أسلحتهم شبه الأتوماتيكية على مبانٍ بعيدة أو على شبان مسلحين آخرين وراء جدران أخرى. توازي ذلك مشاهدُ نساءٍ وأطفال يجرون بحثاً عن مكان للاحتماء فيه من أفراد العصابات. ولكن الأمر الجديد هذه المرة، بطبيعة الحال، هو أن إطلاق النار بات جزءاً لا يتجزأ من حرب أهلية عمياء تدور بين الأشقاء، ولا فائدة ترجى منها طبعاً. هكذا إذن فاز المسلحون في غزة، ولكن ما الذي فازوا به بالضبط؟ فإذا كان المتحدثون باسمهم يزعمون قرب سيادة العدالة والشريعة و"الانتصار على الخونة"، فإن الواقع يشير إلى غير ما يقولون. ذلك أن الأمر لا يعدو كونه انتصاراً لزمرة مسلحة على أخرى. وعليه، فأن نُلبس عمل الزمر المسلحة مسوحاً دينية فليس ذلك كافياً لجعلها دينية. ثم إن قطاع غزة شريط ترابي مقطوع عن العالم منذ فترة. وفي ظل سيطرة "حماس" على القطاع، فإن الدعوات إلى مزيد من العزل لن تزيد إلا قوة. وهكذا، سيصبح مليون ونصف المليون من الأرواح عالقين في ما غدا أكبر نقطة ازدحاماً سكانياً في العالم، حيث ينتشر اليأس والغضب والعنف وانعدام القانون، بما ينطوي عليه ذلك من عواقب كارثية. فالشبان الذين تبددت فرصهم في الحياة المعقولة، وفقدوا كل أمل، باتوا يفكرون اليوم بأسلحتهم، وليس بعقولهم. والواقع أنه من السهل إدانة أعمال العنف الوحشية التي قاموا بها؛ غير أن الجزء الأكبر من اللوم ينبغي أن يقع على زعمائهم، في الداخل والخارج، والذين يديرون هذه المهمة الانتحارية الوطنية. يستحق اللومَ أيضاً أولئك الذي عبَّدوا الطريق أمام هذه المأساة. ذلك أن خنق إسرائيل الوحشي لقطاع غزة على مدى العامين الأخيرين لم يعمل سوى على مضاعفة الحرمان والإهمال اللذين عاناهما سكان القطاع على مدى أربعين عاماً تقريبا. ثم إنه في وقت مازالت تتحدث فيه الولايات المتحدة عن دعمها لحل الدولتين وللمعتدلين الفلسطينيين، يجوز لسائل أن يسأل: ماذا فعلت واشنطن على وجه التحديد لتحقيق هذا الهدف ودعم الاعتدال؟. لقد تغاضت هذه الإدارة، على مدى السنوات السبع من عمرها، عن التوسع المستمر لإسرائيل في الضفة الغربية وإذلالها المُمنهج للفلسطينيين هناك، وهجماتها العدوانية على غزة. ثم إنه من الغباء أن تسمح الإدارة لإيديولوجيتها بأن تتغلب على الواقع، وتلحّ على أن يُجري الفلسطينيون انتخابات برلمانية، ثم ترفض نتيجتها الأكيدة، بل وتثبط الجهود العربية الرامية إلى التوفيق بين تلك النتيجة ومطالب المجتمع الدولي. ولكن، ماذا عن ضغوط اللحظة الآن؟ ثمة حاجة عاجلة اليوم لمعالجة هذه الأزمة التي لم تنتهِ فصولها بعد. فإذا كان يتوجب إدانة "حماس" ومموليها الخارجيين، فإن ذلك لا ينبغي أن يتم على حساب سكان غزة. ولذلك، يجب وضع آلية دولية لتوفير المساعدات العاجلة بشكل مستمر. كما يجب دعم "أبو مازن"، ليس بالقول، وإنما بالفعل. وعلى رغم أن الأمر قد لا يرضي البعض، فإنه لابد من بذل مزيد من الجهود لتحقيق الوحدة الفلسطينية. والأكيد أنها مهمة ليست بالسهلة نظراً للدماء التي أُريقت في الجانبين، إلا أنه نظراً لواقع المجتمع الفلسطيني، فإنه لا يمكن أن يكون ثمة "منتصرون" لأن الجميع خاسر. إضافة إلى ذلك، لا ينبغي ترك غزة لإيران والعناصر المتطرفة الأخرى؛ ولا ينبغي في الوقت نفسه التخلي عن سكانها. فالتقدم إلى الأمام لا يتمثل في تضييق الخناق على "حماس"، بقدر ما يتمثل في إظهار مزايا وإيجابيات الوحدة الوطنية والسلام لكافة الفلسطينيين. من يمكن أن يقود هذه الجهود؟ الواقع أنه آن الأوان كي تفرض الدول العربية والاتحاد الأوروبي نفسيهما بشكل أكبر. عليهما أن يريا في هذه الكارثة مؤشراً على الخطر: فالمنزل المتداعي الذي بنته سياسة إسرائيل والولايات المتحدة آلَ إلى الانهيار، والمتطرفون يحكمون في الشوارع. كما أن عواقب الكوارث المقبلة قد تكون أكبر وأوسع.