هناك سباق لمنع انهيار كامل في مشرقنا العربي، في مشهد مصبوغ بلون الدم المسفوك على أيدي بعض العرب ضد عرب آخرين، مما يبعث على الحزن والألم في مشرقنا العربي، الذي وصل إلى مستويات من الأسى والانفجار غير مسبوقة. والحقيقة أن ما يجري يذكّرنا بكلام الملك عبدالله الثاني الذي حذرنا قبل أشهر من مخاوف حرب أهلية في ثلاث دول عربية هي العراق وفلسطين ولبنان. وها هي تلك النبوءة تترجم في شوارع غزة النازفة -التي صارت تسمى غزستان- الغارقة في قتال وانقسامات الإخوة الأعداء في فوضى وانهيار مؤسفين، لكيان بات مقسماً سلفاً. كيف وصلنا إلى مستوى متدنٍّ من الانهيار، بهذا الحجم؟ حيث سقط في أيام أكثر من 120 قتيلاً و500 جريح ينيران فلسطينية وليس على يد إسرائيل! وتجد الفتنة أيضاً متجولة متسكِّعة في شوارع بيروت المتشحة بالسواد، والمتخوفة من انفجار حرب أهلية ثانية، وهي تقترب من رأسين وحكومتين في انهيار آخر للنظام مشابه لفلسطين. بيروت ما زالت تودع شهداءها مجدداً من رجال سياسة وأبرياء، على إيقاعات حرب أهلية جديدة، وحرب أخرى مستمرة في مخيم نهر البارد تقف عند عتبة نهاية شهرها الأول، حيث ينزلق لبنان نحو الهاوية وسط انقسام وتخندُق يزيدان من الاصطفافات الطائفية ويعمِّقان الشرخ ويلغيان الديمقراطية التوافقية، حيث انضم النائب وليد عيدو إلى قافلة الضحايا، وهو النائب الخامس خلال 28 شهراً في بلد يقترب هو الآخر من توصيف "الدولة الفاشلة". وفي العراق تتجول الفتنة عبر التفجيرات الطائفية المذهبية في شوارع سامراء والبصرة والزبير وبغداد وغيرها من مدن عراقية يتفشى فيها مجدداً القتل المذهبي بعد تفجير مرقد الإمامين العسكريين للمرة الثانية. وأما مساجد السُّنة فلم تحمها أسماء الصحابة كمسجد الصحابي طلحة بن عبيدالله رضي الله عنه، في مدينة الزبير. نحار حقيقةً من أين نبدأ؟ وكيف نشرح هذا المشهد العربي المخضب بالدماء؟ لأن الحدث جلل ومؤلم وكل واحدة من هذه الحروب الثلاث معقدة ومتداخلة الأبعاد ومتشابكة وتكفي لأن تشكل بمفردها حدثاً استثنائياً، كفيلاً بأن يشعل النيران في هشيم المنطقة. يقترب الشرق الأوسط المعذب إذن في مشرقه، من الخليج إلى المتوسط، من أن تصدق عليه نذر التوصيف الذي طالما ردده كثيرون في عواصم غربية:MIDDLE EAST MELTDOWN أي "انهيار الشرق الأوسط". إنه مشهد عربي محتقن في الأطراف وفي القلب، ويضاف إلى هذه المعاناة في مناطق الأزمات الثلاث ما يساهم به جيراننا من غير العرب من إسرائيل وإيران وتركيا، بإسهامهم في زيادة احتقانه سواء كانت إسرائيل في الوسط التي أطلقت قمر تجسس "أفق"، وأعادت إنتاج وتدوير سياسييها من أمثال شيمون بيريز لتسلمه رئاسة الدولة، المنصب الرمزي، إضافة إلى إعادة انتخاب إيهود باراك لرئاسة حزب "العمل"، وتسلمه منصب وزير الدفاع أو الحرب بالأصح. إلى إيران في الشرق التي تسعى للهيمنة وتهددنا بالقصف. وصولاً إلى تركيا في الشمال التي تحشد الحشود وتهدد بغزو شمال العراق لتأديب الأكراد ولحماية مصالحها. وما يزيد المشهد المشرقي العربي تعقيداً واحتقاناً تواتر الحديث عن "الفشل" والتفكير في واشنطن بالانسحاب من العراق. ووسط هذه الخلفية المرتبكة لم تأتِ المصائب فرادى، فجاء تفجير منارتي مسجد الإمامين العسكريين مرة أخرى في سامراء في العراق بعد 16 شهراً من تفجير المسجد، ما أشعل حينها احتراباً مذهبياً مدمراً تم قتل العراقيين فيه على الهوية والاسم والمناطقية، وتم حرق وتدمير المساجد والحسينيات وبشكل لا يمت للإسلام بصلة. ومع مخاوف تكرار وتسعير القتل والعنف المذهبي بالقتل وتدمير مساجد السُّنة والحسينيات في بغداد والبصرة وغيرهما في انتقام متبادل، وسط اتهامات سُنية لحكومتي المالكي وقبله الجعفري ضمن سلسلة التآمر على العراقيين، إلى درجة أنني سمعت أحد رجال الدين السُّنة يقول للمذيع: "لو أن الكعبة المشرفة كانت في العراق لما توانوا عن تفجيرها لتحقيق أهدافهم"! وأمام استباحة كلية لدولنا وسيادتنا وأوطاننا، وتلاشٍ لأي عامل استقرار واختراق لمقومات الأمن القومي العربي، فهل من مخرج لهذا الواقع المؤلم يغير من اصطباغ المشهد العربي بالدم والموت والفتنة؟ إنه سؤال كبير حقاً لا يملك الكثير من العرب إجابات شافية عليه، وخاصة أننا من يدفع ثمن اقتتال الداخل وتدخل الخارج. وهنا تكمن المعاناة والمأساة المؤلمة لنا جميعاً في بقاء الأمن القومي العربي مخترقاً وهشاً ومنكشفاً ومستباحاً إلى هذه الدرجة.