كان أسْر الإيرانيين لخمسة عشر جندياً بحرياً بريطانياً بسبب ما نسب إليهم من انتهاك للمياه الإقليمية الإيرانية، سبباً أدى إلى استدعاء وسائل الإعلام لحادثة القبض على طاقم السفارة الأميركية في طهران على أيدي متظاهرين من الطلاب في الفترة التي شهدت اندلاع الثورة الإيرانية عام 1979. يتذكر خمسة على الأقل من طاقم السفارة الذين كانوا ضمن الرهائن الأميركيين في ذلك الوقت أن المتظاهرين كانوا يضمون متظاهراً غاضباً هو نفسه محمود أحمدي نجاد الرئيس الإيراني الحالي المناوئ للغرب. في ذلك الوقت عاني الأسرى الأميركيون من الدبلوماسيين من الأسر لمدة 14 شهراً كاملة قبل أن يتم الإفراج عنهم في نهاية المطاف. وما بين هذين الحادثين الدراميين، هناك حادث آخر يبدو عند قراءة تفصيلية، وكأنه سيناريو لفيلم من أفلام الإثارة التي تنتجها هوليوود. وهو حادث لا تزال خفاياه، تتكشف في المنطقة حتى اليوم، ولا يزال يبدو في نظر الكثيرين سراً مراوغاً مغلَّفاً بنسيج كثيف من الروايات التي تتناقض فيما بينها تناقضاً حاداً. تبدأ القصة بعد إقدام صدام حسين على غزو الكويت في أغسطس 1990، وهو الغزو الذي أشعل حرباً بين العراق والتحالف الدولي الذي قادته الولايات المتحدة. في بداية تلك الحرب، كانت القوات الجوية العراقية تضم 750 طائرة تقريباً تتوزع ما بين مقاتلة وقاذفة، بالإضافة إلى 200 طائرة أخرى أو نحو ذلك من طائرات الإسناد. ونظراً لتعرض عدد كبير من تلك الطائرات للتدمير في الأيام الأولى للحرب مع الحلفاء، فإن العراقيين سارعوا بإخفاء باقي الطائرات في ملاجئ حصينة تحت الأرض. وعندما استخدم الأميركيون القنابل الموجهة توجيهاً دقيقاً والقادرة على اختراق تحصينات الملاجئ وتدمير الطائرات الموجودة بداخلها، فعل العراقيون شيئاً غريباً. فحسب ما يقوله الجنرال "ميريل ماكبيك" الذي كان يشغل في ذلك الوقت منصب رئيس أركان القوات الجوية الأميركية، فإن صدام حسين أدرك أنه طالما أن تلك الطائرات لم تعد آمنة في الملاجئ، فإنه يجب نقلها إلى مكان آخر، واتخذ قراراً بذلك بالفعل. وكان المتوقع أن تطير تلك الطائرات غرباً لتحط في قواعد في المملكة الأردنية المجاورة، وهي دولة صديقه للنظام العراقي. وبناء على ذلك التوقع، كثف طيارو التحالف من دورياتهم في منطقة الحدود العراقية مع الأردن، للحيلولة دون هروب تلك الطائرات. ما الذي فعله الطيارون العراقيون عندما لم يتمكنوا من الاقتراب من الحدود الأردنية؟ لقد قاموا في ذلك الوقت بقيادة طائراتهم إلى الاتجاه المعاكس وعبروا في خطوة غير متوقعة الحدود مع إيران، وهي البلد التي كان العراق قد خاض ضدها حرباً طاحنة استمرت ثماني سنوات كاملة وأسفرت عن مصرع مليون شخص من الجانبين على الأقل. وقد ظل هذا الخروج الجماعي للطائرات العراقية إلى إيران مصدراً لجدل محتدم وروايات متعارضة لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا. وحتى اليوم أيضاً، لا يزال عدد الطائرات العراقية، التي أصبحت في حوزة أيدي أعداء العراق اللدودين غير معروف على وجه التحديد. والاختلاف حول عدد هذه الطائرات بدأ بعد حادث الهروب إلى إيران بوقت قصير، حيث أعلن "البنتاجون" أن هناك 12 طائرة عراقية من طراز "ميج- 29" المقاتلة، وعدداً مماثلاً من طائرات النقل، قد هبطت في مكان لم يكشف عنه النقاب في إيران. بعد ذلك صدر تقرير آخر عقب خروج تلك الطائرات قدر عددها بـ39 طائرة، ثم ارتفع هذا الرقم حسب بيان رسمي لوزارة الدفاع الأميركية "البنتاجون" إلى 120 طائرة، قبل أن يصدر بيان عراقي يقدر عددها بـ149 طائرة تضم طرازات متنوعة هي الميراج الفرنسية، و"ميج" و"سوخوي" السوفيتيتين، بالإضافة إلى طائرات نقل واستطلاع من أنواع أخرى. وهناك رواية قدرت أن تلك الطائرات ضمت أيضاً 17 طائرة مدنية تابعة لخطوط الطيران العراقية. ولا يقتصر الخلاف حول عدد تلك الطائرات وطرازاتها فقط، وإنما يمتد ليشمل سر عبور تلك الطائرات للحدود مع إيران. فوفقاً لمجلة "آيرباور جورنال" فإن: "الطائرات الأولى التي عبرت الحدود إلى إيران كانت طائرات يقودها طيارون عراقيون فارون"، وأن هذا يفسر السبب في نفاد الوقود من بعض تلك الطائرات وتحطمها، كما يفسر لماذا قام صدام حسين في البداية بمطالبة إيران بإعادة الطائرات التي هبطت في أراضيها. وبعد ذلك بوقت قصير، أصدر صدام حسين من أجل المحافظة على ما وصفه بأنه "زهرة قواته الجوية"، أمراً لطائراته بالخروج من منطقة القتال حتى لا تتعرض للتدمير. وإذا ما كان دافع الطيارين لعبور الحدود مع إيران، وعدد تلك الطائرات بالضبط، لا يزال غير معروف حتى الآن، فإن المعلومات حول عدد الطيارين والأطقم التي بقيت في إيران أقل من ذلك بكثير. ويقدر عدد من خبراء الطيران الأميركيين أن هناك 70 طياراً وفنياً قد وضعوا على متن طائرة مدنية وتم إسقاطهم على بعد 200 كيلو متر من الحدود مع إيران.. ولكن الإيرانيين قاموا بإركابهم حافلة قادوها إلى خط الحدود مع العراق حيث قاموا بتسليمهم إلى السلطات العراقية التي أعادتهم إلى قاعدة الرشيد الجوية. ولكن هناك بعض الأسئلة، التي لا تزال بحاجة إلى إجابة منها على سبيل المثال: ما الذي حدث لباقي الطيارين؟ هل تمت إعادتهم سراً بعد ذلك؟.. هل رفض البعض منهم العودة وفضلوا البقاء في إيران؟ هل لا يزال البعض منهم رهائن في إيران حتى الآن؟ هل تم إعدام البعض منهم في العراق؟ قد لا يقدر لنا معرفة الإجابات عن هذه الأسئلة أبداً؟ ولكن الذي يدلنا على أن القتل في العراق في ذلك الوقت كان أمراً سهلاً، هو ما ورد في تقرير لصحيفة "الديلي تلغراف" البريطانية قالت فيه إن العشرات من الطيارين العراقيين، الذين شاركوا في قصف إيران خلال الحرب التي اندلعت ما بين عامي 80- 1988 قد تم اغتيالهم بعد ذلك في العراق على أيدي قتلة من أصدقاء إيران أو مأجورين لها. ووفقاً لتقارير تمت إذاعتها العام الحالي، فإن إيران لا تزال تقدم عطايا من أجل اغتيال المزيد حيث تقول "باميلا هيس" الصحفية في وكالة "يونايتد برس" إن إيران لا تزال تحتفظ بقائمة بالأشخاص الذين يتعين قتلهم، وأن تلك القائمة تضم 400 اسم على الأقل. في عالم اليوم الذي تمضي فيه الأحداث بخطى متسارعة، تحتل أحداث مثل هذه واجهات الصحف، وصدارة نشرات الأخبار، كما تستدعي زخماً من تعليقات المدوِّنين، غير أنها لا تلبث بعد ذلك أن تسقط من ثقوب الذاكرة الجمعية، كي تتبعها للأسف الشديد أزمات رهائن أخرى في المستقبل. آلفين توفلر كاتب ومفكر أميركي في شؤون المعلومات والمستقبليات ينشر بترتيب خاص مع "تريبيون ميديا سيرفيس"