أكتب هذا المقال من منطقة الحدود بين رواندا وبوروندي حيث فقدت "سبيشيوز كاباجويرا" طفلاً آخر لها الأسبوع الماضي -الحمل الثاني عشر لها- بعد أن وُلد الطفل ميتاً. ولم يكن هذا الطفل هو أول طفل لها يولد ميتاً، بل الخامس. ويمكن القول إن ما أدى إلى موت أطفال تلك السيدة وكبّدها عناء تلك المرات من الحمل المتكرر، هو مزيج من الفقر وعدم توافر الرعاية الصحية. ولكنّ هناك أيضاً سبباً آخر كان يرفرف في خلفية الصورة هو الصراع الأهلي وعدم الاستقرار في القارة. في تاريخ سابق من هذا العام، كنت قد نظمت مسابقة اسمها "مسابقة الرحلة الواحدة" يتم بموجبها اختيار تلميذ وأستاذ من الفائزين الأوائل لمصاحبتي في رحلة إلى أفريقيا. وهذا ما أفعله في الوقت الراهن في الحقيقة حيث يصاحبني اثنان من الفائزين إلى منطقة البحيرات العظمى التي تقع وسط أفريقيا، وهي المنطقة التي شهدت مأساة إنسانية مروعة لأننا -في الغرب- سمحنا للصراعات أن تتفاقم في هذه الأجزاء المنسية من العالم. وخلال تلك الرحلة التي ستستغرق أسبوعين ستقوم "لينا وين"، وهي طالبة طب من جامعة واشنطن، و"ويل أوكون" وهو مدرس في إحدى المدارس الثانوية في شيكاغو، بمصاحبتي للتجول في أنحاء رواندا وبوروندي وجمهورية الكونجو الديمقراطية. عام 1994، لقي ما يقارب 5 ملايين شخص حتفهم في منطقة البحيرات العظمى، مما دعا بعض المراقبين إلى أن يطلقوا على ما حدث هناك "حرب أفريقيا العالمية الأولى". وقد قمنا أنا و"لينا" و"ويل" بزيارة الكنيسة الكاثوليكية الموجودة في "نياماتا" الواقعة في جنوبي رواندا يوم الأربعاء الماضي، وهي الكنيسة التي شهدت ذبح أعداد كبيرة من "التوتسي" المرعوبين عام 1994 بعد أن آووا إليها طلباً للأمان. من ضمن المناظر التي بعثت القشعريرة في أوصالنا هناك منظر بقع الدماء التي تغطي جدران الكنيسة، في القاعة التي قام فيها المهاجمون بتجميع الأطفال الصغار وتهشيم رؤوسهم في الحائط. وتحت هذه الكنيسة يوجد قبو يحتوي على عدد لا يحصى من جماجم وعظام الضحايا، ينهض كشاهد مروع على التخاذل الغربي المُشين عن التدخل لمنع تلك المذبحة الشنيعة. ولكن نزيف الدم في رواندا سرعان ما انتهى، وأصبحت رواندا الآن دولة مزدهرة تنعم بالسلام، بيد أن المشكلات التي نتجت عن تلك المذبحة لا تزال تُطبق على خناق البعض مثل " كاباجويرا" التي أشرت إليها. فعندما قابلتها كانت تقيم في معسكر يضم 2000 رواندي كلهم كانوا قد هربوا من مناطق العنف الإثني إلى تنزانيا المجاورة قبل أن يتم طردهم منها بعد ذلك. في الوقت الراهن تعيش "كاباجويرا" في كوخ عشوائي، في منطقة لا يتوافر فيها الماء النقي، وتعاني من فقر التربة، ولا توجد بها مرافق كافية، حيث يقع المستشفى الوحيد الذي يمكن لسكان المعسكر أن يجدوا فيه علاجاً على مبعدة ساعة بالسيارة. وتقول "كاباجويرا" إنه كان بالإمكان إنقاذ طفلها الذي مات الأسبوع الماضي، لو كانت قد وصلت إلى المستشفى في وقت أبكر، وأن الذي أخرها عن الذهاب في الوقت المناسب، هو أنها لم تكن تمتلك ثمن التذكرة الذي لم يكن يزيد على دولار واحد وعشرين سنتاً. والسؤال هنا هو: كيف يمكننا مساعدة الضحايا من أمثال تلك المرأة البائسة؟ هناك بعض الإجابات الذكية على ذلك يمكن أن نعثر عليها في أفضل كتاب عن الشؤون الدولية صدر هذا العام وهو كتاب "بول كوليير" المعنون: "البليون الأولى: لماذا تنهار الدول الأكثر فقراً، وما الذي يمكننا عمله حيال ذلك؟". يقول كوليير إنه في الوقت الذي تتحدث فيه الدول الثماني الكبرى عن مساعدة أفريقيا، فإنها تركز جل اهتمامها على المساعدات الخارجية التي تستخدم في بناء المستشفيات والعيادات والطرق، التي يتم تدميرها مجدداً على أيدي جماعات المتمردين التي تتحرك في المدن والقرى بحرية، وتطلق النار على تلك العيادات وعلى العاملين فيها. والمؤلف يرى أن الدول الأفريقية في حاجة قبل ذلك إلى مساعدات عسكرية من الغرب لمواجهة التمردات والحروب الأهلية والمذابح الجماعية ودعم الحكومات الرشيدة. فالحروب الأهلية تتطلب عشرات المليارات من الدولارات للتغلب على آثارها، في حين كان يمكن الحيلولة دون استمرارها، فيما لو كان قد تم التدخل فيها عسكرياً في مراحلها الأولى. والمؤلف يشير في هذا الصدد إلى التدخل البريطاني في سيراليون باعتباره يمثل دليلاً واضحاً على صواب وجهة نظره، وذلك عندما أدى ذلك التدخل إلى إنهاء الحرب الأهلية التي كانت تهدد بالتوسع في تلك الدولة، وهو ما كان يمكن أن يحدث في رأيه في رواندا لو كانت هناك قوة غربية صغيرة قد تدخلت في بدايات الصراع هناك عام 1994، أو حتى بعد ذلك. على ضوء ما تقدم أقول إن الوقت قد حان كي تعمل الدول الثماني الكبرى على التعامل مع موضوع المساعدات الخارجية للدول الأفريقية من منظور أكثر اتساعاً، أي أن تتوقف عن النظر إليه على أنه مجرد أموال تدفع لتلك الدول لاستخدامها في بناء المستشفيات والمدارس والطرق، وأن تعمل بدلاً من ذلك على التعاون مع دول الاتحاد الأفريقي عسكرياً من أجل توفير الأمن في المناطق التي تعتبر من بؤر التمرد والحروب. وسيكون من المناسب للغاية أن تكون نقطة البداية في هذا الصدد هي إقدام الغرب على بذل مجهود جدي من أجل مواجهة المذبحة الجماعية في دارفور، وإنشاء قوة دولية لمساندة تشاد وأفريقيا الوسطى، حتى لا تجد أفريقيا نفسها وقد انزلقت تدريجياً إلى حربها العالمية الثانية. ــــــــــــــــــــ كاتب ومحلل سياسي أميركي ــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"