لو أن الولايات المتحدة قامت بالفعل بتنفيذ خططها الرامية إلى نشر درعها الصاروخية على أراضي بولندا وجمهورية التشيك، وهي أراضٍ متاخمة مباشرة للحدود الروسية، فإن العالم سيكون قد دخل بالفعل إلى فصل جديد من سباق التسلح الذي سيقود إلى حرب باردة جديدة. ويعزز هذه المقولة أن العديد من الدول الكبرى، بالإضافة إلى الولايات المتحدة آخذة في السنوات الأخيرة في زيادة إنفاقها العسكري بمعدلات عالية جداً. ما تنفقه الولايات المتحدة وحدها على التسلح يفوق ما تنفقه جميع الدول، بما في ذلك الصين ودول أوروبا الكبرى كبريطانيا وفرنسا. وبهذا الشكل، فإن المكاسب التي تحققت على الصعيد السلمي منذ انتهاء الحرب الباردة، تكون قد تبخرت، فقبل نهاية الحرب الباردة، كان الإنفاق العسكري العالمي يزيد على تريليون دولار في العام. وفي أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي وزوال الحرب الباردة، تراجع الرقم كثيراً، لكي يعود هذا العام، ويصل إلى نفس المعدلات التي كانت سائدة من قبل. ويعيد خبراء التسلح العالمي ذلك إلى عدة أسباب، أولها الحرب في العراق وأفغانستان الآخذة في الاستعار بحدة بعد تزايد العمليات الانتحارية وعودة "طالبان" إلى الساحة بعد أن تم الاعتقاد بأنه قضي عليها، وثانيها يعود إلى قيام الولايات المتحدة، والصين، وروسيا، وبريطانيا، وفرنسا، وإسرائيل، بزيادة إنفاقها العسكري، إما بسبب توسعة جيوشها أو قيامها بتحديث تلك الجيوش وترسانات الأسلحة التي تمتلكها. وإزاء تنامي الإنفاق العسكري للولايات المتحدة وقيامها بنشر شبكات الصواريخ على حدود روسيا، لاتقف الدول التي تتوجس خيفة من سعي الولايات المتحدة الحثيث نحو مزيد من التسلح راكدة، فروسيا ترفض بشدة نشر الصواريخ بالقرب من حدودها الغربية، وقد نادى الرئيس بوتين مؤخراً في قمة الثماني بإزالتها وإعادة نشرها في العراق وأفغانستان بدلاً من أوروبا الشرقية، وتقوم الصين بزيادة تسلحها العسكري بمعدلات عالية، فقد تمت زيادة الميزانية العسكرية الرسمية لهذا العام بنسبة 18 في المئة، دع عنك ما لا تفصح عنه من مبالغ ضخمة في هذا المجال. وأخيراً فإن وزير الخارجية الألماني "فرانك والتر شتاينماير" صرح في مارس الماضي بأن من المهم عدم ترك الولايات المتحدة تشعل فتيل تسلح عالمي جديد. ولو نظرنا إلى البنية الخلفية للحرب الباردة السابقة التي جاءت كإحدى نتائج الحرب العالمية الثانية، فسنلاحظ أن حقبتها اصطبغت باستقرار استثنائي بسبب قلة الفاعلين الكبار المؤثرين في الشأن الدولي، حيث تقلص عدد القوى العظمى إلى اثنتين فقط، وطغى الشقاق الأيديولوجي بين الشرق والغرب على جميع الصراعات السياسية والثقافية الأخرى، ولكن بمقارنة حالة الاستقرار الاستثنائية تلك بالسجل التاريخي العالمي الحافل بالصراع يلاحظ أن استقرار تلك الحالة البنائية البسيطة بلغ مستوى استثنائياً، أثار العديد من التساؤلات المشروعة، فقد اعتقد العديد من الباحثين أن السلام الطويل الآن الذي كان سائداً سيستمر إلى ما لا نهاية. ولكن إذا ما كان الاستقرار والبساطة هما الصفتان اللتان اصطبغت بهما الأوضاع في الفترة المباشرة لما بعد الحرب الباردة الماضية، فإن العكس هو الذي يبدو كامناً للحقبة الحالية والمستقبلية. فترة ما بعد الحرب الباردة الماضية تعرض أمامنا تعقيدات وتغيرات ملحوظة، فهيمنة القوتين العظميين تم استبدالها بتوزيع معقد للقوة والبنود يشتمل على منظومة من الفاعلين، تلك المنظومة ذات شكل غير واضح بدقة حتى الآن؛ ولكن خلال هذه المنظومة تبقى الولايات المتحدة الأميركية أقوى الفاعلين على الإطلاق، لأنها تمتلك قوة عسكرية جبارة، رغم أن تلك القوة تبقى أقل من أن تصبح أحادية وفاعلة بشكل مطلق، وربما يوضح لنا ما تواجهه في العراق وأفغانستان أكبر دليل على ذلك. ونحن إذ نقر بأن الولايات المتحدة هي الفاعل الأساسي في الشؤون الدولية نظراً لتفردها بمركز القوة العظمى، نتساءل أيضاً: هل سيستمر هذا الوضع إلى ما لا نهاية؟ تاريخ العالم المعاصر منذ مرحلة ما بعد العصور الوسطى لا يقر بذلك؛ فقد ظهرت قوى دولية متعددة تشكل بسببها توازن دولي متعدد الأقطاب، لذلك فإن من المتوقع أن يحدث شيء مشابه لذلك في المستقبل، وربما يمكن القول إن الانتقال إلى تساوٍ جديدٍ في موازين القوة سيكون قصيراً، وحتى وإن وصلت هذه التحولات إلى نهاية سريعة فإن ذلك لا يعني بالضرورة أن تكون فترة الاستقرار الجديدة غير معقدة وذات ديمومة. ومع وجود وضع متعدد الأقطاب من ذلك القبيل لابد وأن يفسح المجال لسباق تسلح جديد بين هذه الأقطاب، وأن يؤدي ذلك في نهاية المطاف إلى حرب باردة جديدة. ما يقلقني حقيقة هو أن يؤخذ عالمنا على حين غرة في المستقبل القريب جراء الاختلال القائم حالياً في التوازن، وما قد يتركه ذلك من آثار سلبية على الصعيد العالمي. ونحن وإن كنا نتمنى غير ذلك، إلا أنه في السياسة العالمية وعلاقات الدول لا يوجد مكان للتمنيات، بل إن جميع الأمور ترتبط بلعبة المصالح ومن يحققها على أفضل وجه، وبأسهل الطرق وبأقل الخسائر ما أمكن ذلك.