عندما اعتدت منظمة "فتح الإسلام" على عناصر قوى الأمن الداخلي والجيش اللبناني في طرابلس ومخيم "نهر البارد"، وارتكبت جريمة مروّعة بحقهم، كان من الطبيعي أن ترد القوى الأمنية لتحفظ هيبتها وكرامتها وأمن لبنان واللبنانيين وسيادة البلد ولتحمي في الوقت ذاته الفلسطينيين من أي استغلال لهم ولقضيتهم، لتحقيق أغراض وأهداف لا علاقة لهم بها. في البداية أعلن كل الفلسطينيين -ولو نظرياً- تبرؤهم من المنظمة. وأجمعوا على القول إنها "غريبة عن البيئة الفلسطينية"، ولا علاقة لها بـ"النسيج الوطني الفلسطيني" وهي "المعتدية" والجيش اللبناني "معتدى عليه"، ومن حقه القيام بواجبه في الدفاع عن نفسه! وأجمع اللبنانيون على رفض الاعتداء وأعلنوا وقوفهم إلى جانب الجيش. ولكن كيف فسرت أو ترجمت ميدانياً تلك المواقف؟ بعد أيام من المواجهات بدأنا نسمع من غالبية القوى الفلسطينية مواقف مميزة بالإرباك أو التناقض أو التراجع عن المواقف المعلنة. ثم بدأوا الحديث عن الحل السياسي والحرص على المدنيين. السلطة اللبنانية -الجيش اللبناني بقيادته العاقلة، أعلن أنه لا يستهدف المخيم، ولا يريد الدخول إليه وليس هذا هدفه في الأساس. وهو لم يخطط للمعركة. ولا يريد إراقة الدماء. ويحرص على الفلسطينيين كما يحرص على اللبنانيين. كل ما في الأمر أن الذين اعتدوا على الجيش يجب أن يسلموا إلى العدالة وإلا سيبقى الجيش في حالة مواجهة معهم ورصد لهم لاعتقالهم أو إنهاء هذه الحالة الشاذة. ولا أعتقد أن ثمة شيئاً أقل، ولا أقول أكثر من ذلك ممكن أن يقبل به الجيش، وأي جيش أو سلطة في العالم تحترم نفسها! ماذا جرى؟ بدأ مسلسل الوساطات. وأدخلت العملية في "بازار" الحسابات السياسية لمصلحة هذا الطرف أو ذاك على المستوى الفلسطيني في لبنان، أو لمصلحة هذه الدولة أو تلك خارج لبنان، ولم يكن ثمة اقتراح جدي من قبل الإخوة الفلسطينيين لحل المشكلة، بل في معظم الاقتراحات، التي قدمت من قبلهم ومن قبل لبنانيين دخلوا على خط الاتصال مع منظمة "فتح الإسلام", لم يكن ثمة بند يشير إلى تسليم العناصر، التي ارتكبت الجريمة بحق الجيش واللبنانيين والمقيمين في مخيم "نهر البارد" في الوقت ذاته. بل كنا أمام سلسلة من المناورات والأفكار، التي تتحدث عن حلول تهرّب فيها بعض القيادات، وتخضع لشروطها من خلال الحديث عن استحالة التسليم، وعن استحالة الترحيل لاحقاً، وإذا كان لابد من ذلك فيحدد خاطفو المخيم والمعتدون عليه وعلى الجيش في آن معاً المكان الذي سينتقلون إليه. وترافق كل ذلك مع استمرار الاعتداءات والاستفزازات ضد الجيش والمدنيين داخل وخارج المخيمات قنصاً وقتلاً وقصفاً وتشديد حصار من خلال منع المدنيين من الخروج لاتخاذهم رهائن. ووصلت الأمور ببعض القوى الفلسطينية إلى اعتبار دفاع الجيش عن نفسه جريمة ترتكب في حق الفلسطينيين! فأعطت كل هذه المواقف نفساً وقوة ودعماً ووقتاً لمن اعتبروا "خارجين عن البيئة الفلسطينية"، ولمن لا علاقة لهم بـ"النسيج الوطني الفلسطيني"، ثم كانت شراكة من قبل بعض القوى الفلسطينية في القتال إلى جانب تلك المنظمة! وعلى المستوى اللبناني، وعلى رغم الإجماع على هيبة الجيش وكرامته وسلامته، فإن قوى رئيسية في البلاد استمر موقفها خجولاً، وغير داعم فعليـاً للجيش على الأرض. البعض منها، أدخل الأمر في بازار الحسابات الداخلية مغلّباً مصالحه الضيقة على ما يمكن أن يهدد الوطن كله إذا ما سقط الجيش الذي يقاتل بإمكانات أقل من متواضعة على المستوى التقني، ولكن بروح قتالية عالية وبشجاعة وإيمان دفاعاً عن كرامته وكرامة لبنان، وهو الجيش الذي كان دائماً موضع إشادة من الجميع بوطنيته قيادة وضباطاً ورتباء وتوجهات! والبعض الآخر قادر على دعم الجيش سياسياً فانكفأ. وفريق قادر على دعمه بالسلاح والذخيرة فانكفأ. وفريق دعاه إلى التسوية. وطرف راح يتحدث بنوع من الشماتة المضمرة مشيراً إلى أن الجيش غير قادر على حسم المعركة، وأنه غرق في مستنقع ولا ينقذه إلا حكومة وحدة وطنية بالشروط، التي يراها هذا الطرف، وبالتالي صار ربط بين فرض هذه الحكومة -وتبين أن المطالبين بها لا يريدون ذلك عملياً- وترك الجيش يواجه مصيره وقد يكون الفشل! وذهب آخرون إلى الحديث عن مؤامرة لتوريط الجيش من جهة، والسيطرة على البلاد من قبل فريق ما من جهة ثانية وتوطين الفلسطينيين من جهة ثالثة، وأبعدت الأنظار عن الأسباب الحقيقية لما جرى ويجري أو على الأقل عن المخاطر المحدقة بالجيش وبالوطن، وكانت مناحة منظمة حول النزوح والتهجير وحقوق المدنيين وسلامتهم وكرامتهم. عملياً إنها المرة الأولى وباعتراف خبراء عسكريين لبنانيين -محسوبين على المعارضة– وعرب ودوليين، التي يقاتل فيها جيش في حرب شوارع وبالإمكانيات المتواضعة التي بين أيديه، وينجح في تحقيق أهدافه والخسائر في صفوف المدنيين محدودة جداً جداً وهذه شهادة للجيش واعتراف بحرصه عليهم. وإذا سلمنا جدلاً بكل ما قيل، واعتبرنا أن ثمة أخطاء ومشاكل داخلية وخلافات وحسابات، فقد ذكـّرنا الجميع أن الأولوية هي لحماية الدولة ومؤسساتها وخصوصاً جيشها. لاسيما في ظل الإقرار بأنه تعرض لاعتداء وإجماعهم على ضرورة الحفاظ على هيبته وكرامته، وبالتالي تتقدم هذه الأولوية على غيرها من الحسابات. وأشرنا إلى الموقف التاريخي، الذي اتخذه رجل تاريخي في الحياة السياسية اللبنانية، هو الرئيس الشهيد رفيق الحريري، الذي كان في المعارضة وكانت السلطة تحاربه وتحاول استئصال حضوره من السياسة وتضع عدداً من أنصاره في السجون وتشهّر به، يوم وقعت أحداث الضنية عام 2000، وفي معزل عن أسبابها وظروفها فقد وقف موقفاً كبيراً متجاوزاً كل حساباته السياسية معلناً وقوفه إلى جانب الدولة والجيش مؤكداً انحيازه إلى إسلام الاعتدال وروح الاعتدال وسياسة الاعتدال رافضاً أي اعتداء على الدولة وكرامتها وجيشها، ووفر بذلك غطاء كبيراً مهماً للجيش وأنقذ لبنان. ولذلك كانت الدعوة، وكان التمني بأن يقف بعض المعارضة هذا الموقف لنوفر جميعاً الحماية للجيش والدولة واللبنانيين والفلسطينيين معاً ثم نناقش قضايانا الخلافية، لكن هذا الأمر لم يحصل للأسف. بل حصل أخطر من ذلك. اقتتال في فلسطين. تهجير للفلسطينيين من قبل قوى "السلطة" وقوى "الحكومة"من قبل "الأكثرية" و"الأقلية" معاً من قبل "السلطة" و"المعارضة"، من قبل "قوى التسوية" "وقوى الجهاد". نعم، تهجير، ونزوح وتدمير للمنازل والمؤسسات واعتداءات متبادلة على منازل ومقرات رئيس السلطة ورئيس الحكومة. واغتيالات واقتتال أدى إلى سقوط عشرات الشهداء ومئات الجرحى! هل في ذلك حماية للمدنيين الفلسطينيين ؟ وهل فعــــل الجيش اللبناني ذلك لا سمح الله؟ وهل ثمة من يفكر بأن له حقاً حصرياً في تهجير وتدمير وتيئيس أبناء شعبه وقتلهم؟ وهل في ذلك منع للتوطين؟ وتأكيد للجهاد ومقاومة للمؤامرة التي تهدف إلى ذلك؟ وهل في ذلك صورة حقيقية عما يجسده الشعب الفلسطيني؟ وهل يخدم ما جرى ويجري مشروع مقاومة إسرائيل المأزومة والمهزومة؟ أم أنه يخدم هذا المشروع وينقذ حكومة أولمرت وعصاباته ويعطيهم نفساً وقوة؟ وهل أدت المواقف المتذبذبة والخجولة في دعم الدولة اللبنانية أو المناوئة عملياً للجيش إلى حماية الشعب الفلسطيني في لبنان وحماية الجيش اللبناني؟ أعتقد أن القوى الفلسطينية، التي لعبت هذه اللعبة خسرت كثيراً في لبنان وألحقت خسائر بالفلسطينيين واللبنانيين وعلاقاتهم الأخوية وأن القوى اللبنانية، التي انكفأت عن احتضان الجيش فعلياً، أو اندفعت في اتجاه حسابات أخرى خطيرة سقطت صدقيتها وكادت تسقط الجيش اللبناني ولبنان. وأن القوى الفلسطينية الأساسية التي لم تملك شجاعة تقديم حل واضح، حتى ولو اضطرت إلى فرضه أساءت إلى الشعب الفلسطيني في لبنان كما إلى اللبنانيين وبالتأكيد أساءت إلى هذا الشعب في فلسطين. وكل هذه المواقف لا تخدم فلسطين وقضيتها، ولا تخدم لبنان وقضيته. ولذلك. كنا في غنى عن كل هذه الخسائر هنا وهناك، أما وقد جرى ما جرى، فلابد من أخذ الدروس والعِبر منه "على البارد"، وحسم مسألة السلاح الفلسطيني خارج المخيمات في لبنان على القاعدة التي تم الاتفاق عليها على طاولة الحوار وبالإجماع بين اللبنانيين في آذار (مارس) 2006، والعمل على تنظيم الأوضاع داخل المخيمات وعلى القوى الفلسطينية أن تتحمل مسؤولياتها كاملة في هذا الاتجاه، ومهما كان الثمن إذا كانت تريد فعلاً مصلحة الشعب الفلسطيني، ولا تعمل لمصلحة غيره هنا وهناك، والعودة إلى بناء علاقات لبنانية- فلسطينية سليمة تأخذ بعين الاعتبار حقوق الإخوة الفلسطينيين الاجتماعية والمدنية لحفظ وجودهم الكريم في لبنان في انتظار عودتهم إلى ديارهم، وعلى قاعدة حق وواجب الدولة في ممارسة سلطتها على أرضها. أما الاستمرار في الاقتتال الداخلي في فلسطين، وتعميم الفوضى، والإساءة إلى صورة وصدقية وجهاد الشعب الفلسطيني، والتسبب بخسائر بشرية ومادية هائلة، وتغطية من يتسبب بذلك في لبنان بطرق مختلفة ثم اتهام لبنان، بأنه يسعى إلى التوطين ويعامل الفلسطينيين معاملة سيئة، فهذا أمر لا يجوز على الإطلاق.