تهيج في يونيو- حزيران من كل عام، ذكريات الألم والمرارة والهزيمة من النكبة الثانية. ضاع نصف فلسطين في العصر الليبرالي في 1948. وضاع النصف الثاني في العصر القومي الاشتراكي في 1967. ويقتتل الرفاق، "حماس" و"فتح" الآن. والماركسيون إما في السجون أو في القبور أو مازالوا يحللون أو ينظِّرون. وتهيج الذكريات أكثر إذا ما انقضى عقد أو فاتت عقود من الزمان. فنحن الآن في الذكرى الأربعين يونيو 1967- يونيو 2007. الاحتلال مازال على الأرض في ما تبقى من فلسطين وعلى الجولان وفي جنوب لبنان، وسيناء منزوعة السلاح. وإسرائيل تفعل ما تشاء في فلسطين ضد المقاومة بعد أن قص ريش العرب وحوصروا داخل حدودهم من عدو بلا حدود. أميركا حدودها العالم كله. وإسرائيل حدودها ما يستطيع "جيش الدفاع الإسرائيلي" أن يصل إليه. والمنقذ، أميركا، لا ينقذ ولا يبيع إلا الوعود، "دولتان" جنباً إلى جنب تتعايشان في سلام. وإسرائيل تعتدي كل يوم على فلسطين، خريطة الطريق التي قبلها العرب على ضيم، حلم صعب المنال. ومبادرة السلام العربية لا أحد يتعامل معها. فإسرائيل تكسب بالعدوان أكثر مما تكسب بالسلام. وأميركا تكسب من السلام ومن العدوان في آن واحد كالمقامر الخبير الذي يكسب في كل الاحتمالات أمام العرب الذين يخسرون في كل الأحوال. بالنسبة لجيلنا، جيل الخمسينيات والستينيات عام 1967 مازال جرحاً في القلب وغضة في الحلق. هو جيل الحركة الوطنية في الأربعينيات، جيل لجنة الطلبة والعمال، الجيل الذي تكوّن فيه "الضباط الأحرار" الذين فجروا ثورة يوليو 1952. لم يندمل الجرح بانتصار أكتوبر 1973 بسبب الهزيمة التامة للإرادة الوطنية بعد أن كانت الشعارات: "خسرنا معركة ولم نخسر الحرب"، "ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة"، "إزالة آثار العدوان". والأخطر هو الانقلاب على المشروع القومي الاشتراكي الوحدوي في 15 مايو 1971، والتحالف مع الاستعمار والاعتراف بالصهيونية، وهي أهداف عدوان 1967. فالسياسة هي الحرب بوسائل أخرى طبقاً للتعريف الشهير. وفي استطلاع أخير لرأي الجيل الجديد من الشباب العربي أجرته إحدى قنوات الإعلام الشهيرة عن مدى وعيهم بهزيمة يونيو- حزيران 1967، كانت النتيجة صدمة لجيل الخمسينيات والستينيات الذي أفنى عمره في التحرر الوطني. ومازال يقاوم الاحتلال والاستعمار والهيمنة من الخارج والقهر والفساد في الداخل. ظهر التغييب التام للوعي التاريخي. وهو أخطر من تزييف الوعي. التغييب نفي تام في حين أن التزييف وعي بديل. والوعي التاريخي هو أساس الوعي السياسي. لذلك يزهو علينا الغرب بأنه هو الذي أعطى العالم فلسفة التاريخ، واكتشف الوعي التاريخي على رغم اعتراف "فيكو" مؤسس فلسفة التاريخ مع "هردر" بأنه استمد قانونه الثلاثي لتطور التاريخ، من مرحلة الآلهة إلى مرحلة الأبطال إلى مرحلة البشر، من مصر القديمة. وضعف أميركا في غياب وعيها التاريخي وتأسيس وعيها السياسي على المصالح والهيمنة وربما على العنصرية وسيادة الجنس الأبيض على الأجناس الأخرى، السوداء والسمراء والصفراء. والنازية والصهيونية و"المحافظون الجدد" بعض صياغاتها. والأخطر هو تغييب الوعي التاريخي العربي الذي يمتد إلى سبعة آلاف عام في مصر القديمة وحضارات ما بين النهرين وفي كنعان، فلسطين القديمة. انتهى استطلاع الرأي إلى ستة مستويات للوعي التاريخي. الأول غيابه التام. فأفراد هذه الشريحة من الشباب لم يسمعوا عن 1967. لم تأخذوها في المدرسة. ولا يشاهدون البرامج السياسية في أجهزة الإعلام. لا يقرؤون الصحف. ولا يتحدثون مع الأصدقاء أو داخل الأسرة في الشأن العام. لم تعد هناك مقررات في التربية الوطنية أو التربية القومية في المدارس. ومقرر التربية الدينية عقائد وعبادات دون معاملات وعلاقات دولية، وعي ديني فارغ من أي مضمون اجتماعي سياسي، وطني أو قومي. والثاني يسخر من السؤال عن مدى الوعي التاريخي بهزيمة 1967. فالمعارك لديه، كسب أم خسارة، في الأسهم والشركات وحسابات البنوك. لا يعرف في الحياة إلا المال. ولا يهدف إلا إلى زيادته أو تبديده. وهو جزء من العولمة الاقتصادية. ورأس المال لا وطن له. وهو ممثل لإحدى الشركات المتعددة الجنسيات. وحساباته في البنوك الأجنبية. جسده عربي، وروحه أميركية. وشكله عربي، وذهنه عولمي. والثالث وعي غائم بأننا هزمنا دون معرفة بالظروف والأسباب والعوامل والنتائج. وعي يأتي من وراء السحب أو من الماضي البعيد مثل استيلاء التتار على بغداد، والصليبيين على القدس، وسقوط غرناطة. لا يمسه في شيء، ولا يؤثر عليه، ولا يتفاعل معه. فالتاريخ مصير. والماضي انقضى. والحاضر أبلغ وأوضح وأكثر إشراقاً. وغياب الوعي التاريخي هو سبب غياب الوعي السياسي. لا تطلب الهزيمة موقفاً. ولا يحدد لفظ "انهزمنا" من الذي انهزم. وعي جماعي غامض، وهوية فارغة. واستسلام للأقدار، ونقص في الحمية. ولم يسمع خطاب عبدالناصر في الأزهر يوم العدوان "سنقاتل". والرابع انهزمت مصر. فالحرب حرب مصر. الشقيقة الكبرى في الذهن وفي الوجدان لكنه غير متضامن معها منذ 1948 حتى 1973. مصر هي الغريب، المغاير وربما المخالف. هي التي مازالت تتمسك بمسؤولياتها وتتحمل عبء العرب، ولكنها في عالم وهو في عالم آخر. لا يتماهى معها. له عالمه الخاص المباشر الواقعي. وهي لها عالمها الخاص المثالي. مصر هي البلد الغريب والتي تطالب العرب بالتضامن والتضحية. وهو يريد راحة البال دون أن يعكِّر عليه صفوه أحد. والخامس انهزم عبدالناصر. فله الفضل في أنه مازال يتذكر الاسم، ولكن الحرب حربه، والنضال نضاله، والمعركة معركته. لا يعلم أن عبدالناصر كان يجسد روح أمة، ويناضل باسم شعب، ويحارب من أجل الحرية والاستقلال. يوحد بين الزعيم والوطن، بين القائد والجيش، بين الرئيس والدولة، كما يشاهد في واقعه السياسي وثقافته الإعلامية. هي إذن قضية فردية شخصية وليست صراعاً تاريخياً بين قوى التحرر وقوى الاستعمار. وفي حالات أخرى ربما لم يسمع جيل بالاسم. سألني أحد أحفادي مرة: يتكلمون في المدرسة عن عبدالناصر، من هو، هل كان حاكماً لمصر؟ اسم بلا مسمى، لفظ بلا مضمون، صورة بلا قضية. والسادس احتلال الأراضي العربية وهو أقصى ما يستطيع الوعي التاريخي إحضاره. ومازالت الإجابة فيها نوع من حضور الوعي التاريخي الوحدوي وهو الاحتلال والأراضي العربية. وهو أقصى ما يصل إليه من وعي سياسي، دون ذكر للمقاومة أو لطول فترة الاحتلال أو لمخاطر السلام أو لكامب ديفيد أو للاعتراف والصلح والمفاوضة أو "اللاءات الثلاثة" أو أي شيء عن المستقبل والمصير. وعلى النقيض من تغييب التاريخ يحضر لدى العدو الإسرائيلي الوعي التاريخي في أشد صياغاته العنصرية والعدوانية. فقد كان الإسرائيلي عندما يقابل إسرائيلياً منذ هدم المعبد "العام القادم في أورشليم". تقوم بالحفريات في القدس وأسفل المسجد الأقصى لإثبات وجود المعبد ومن ثم ضرورة إعادة بناء ما انهدم بعد هدم ما انبنى على الأنقاض. وتكثر الدراسات والبحوث التاريخية حول الشعب الأول الذي سكن في فلسطين، وهم اليهود بزعمهم وليسوا الفلسطينيين في أرض كنعان. و"الاحتلال العربي" للقدس مثل الاحتلال الصليبي والروماني والفارسي والبابلي. للعدو رؤية مستقبلية، فالوعي التاريخي ليس وعياً بالماضي فحسب بل هو أيضا وعي بالحاضر وبالمستقبل، إسرائيل من الفرات إلى النيل، من مصر إلى العراق. الخطورة الآن بعد تغييب الوعي التاريخي على الوجود العربي في التاريخ. لم يعد يتحدث أحد عن العرب إلا في مقابل البربر في المغرب العربي، وإلا في السودان في مقابل الأفارقة في الجنوب، أو في مقابل الكرد والترك في العراق. بل الحديث كله طائفي بين السُّنة والشيعة في الخليج والعراق، أو المسلمين والأقباط في مصر، والموارنة والمسلمين في لبنان، والزيدية والشوافع في اليمن. الخطورة الآن التضييق على مصر وقص أجنحتها وخناقها من الشرق بتفتيت العراق، ومن الغرب بتفتيت المغرب العربي، ومن الجنوب بتقسيم السودان، حتى لا يُترك لمصر إلا الشمال الأوروبي الذي ورث الخلافة. وإذا كان الحلم القديم "مصر قطعة من أوروبا"، فلماذا لا يعود من جديد؟