ليست قمة الثماني بألمانيا أبرز ما ميز الزيارة الأخيرة التي قام بها الرئيس جورج بوش إلى أوروبا، على رغم كونها الدافع الأساسي الذي قاده إلى القارة الأوروبية الآن، بل المميز فعلاً هو تعريجه القصير على ألبانيا قبل عودته إلى أرض الوطن. فقد استقبل الألبان الرئيس بوش استقبال الأبطال أثناء تلك الزيارة، وخصت له الجماهير في هذا البلد الصغير والفقير، ذي الغالبية المسلمة، حفاوة منقطعة النظير، وهو الشعب الذي عانى الأمرَّين من تجاوزات النظام الشيوعي خلال فترة الحرب الباردة. ويرجع هذا التقدير الكبير الذي تحظى به الولايات المتحدة في ألبانيا إلى تأييد أميركا حصول هذا البلد على استقلاله، وذلك منذ معاهدة فرساي عام 1919، عندما رفض الرئيس الأميركي "وودرو ويلسون" تقسيم ألبانيا، وأصرَّ على بقائها موحدة. وفي العقدين الأخيرين قام الرئيسان "بيل كلينتون" وجورج بوش الأب بتسهيل عملية خروج ألبانيا من بوتقة الشيوعية بعد سقوط الاتحاد السوفييتي السابق عام 1991، ومساعدتها في الانتقال إلى نظام أكثر حرية. والأكثر من ذلك أن الرئيس بيل كلينتون لم يتردد في السماح باستخدام القوة لحماية سكان إقليم كوسوفو الألبان من الاعتداء الصربي. واليوم يقود جورج بوش الجهود الدولية الرامية إلى ضمان حصول الإقليم على استقلاله من صربيا. ولعل هذا الجهد هو ما يفسر الحفاوة الكبيرة التي استُقبل بها الرئيس بوش عند توقفه في ألبانيا، قبل عودته من رحلته الأوروبية إلى أميركا، وهي الزيارة التي كانت من منظور بوش ناجحة بكل المقاييس. فعلى رغم التوقعات المتواضعة التي عبَّر عنها المراقبون في البداية بسبب الاختلاف في وجهات النظر بين الأميركيين والأوروبيين بشأن قضية التغييرات المناخية، والجدل حول الطريق الأفضل لمعالجتها، وعلى رغم النزاع الذي كان مرتقباً بين الولايات المتحدة وروسيا على خلفية نظام الصواريخ الأميركي المزمع إقامته في أوروبا الشرقية، إلا أن أياً من تلك القضايا لم يؤثر سلباً على اجتماع القمة. فقد تم التوصل إلى تسوية مرْضية لألمانيا بشأن موضوع التغييرات المناخية تقديراً للجهود التي بذلتها المستشارة أنجيلا ميركل في هذا السياق. ومن جانبه تقدم الرئيس الروسي فلادمير بوتين بأفكار جديدة حول موضوع الدرع الصاروخية تقضي بنصبها في أماكن أخرى، وهو ما اعتبره بعض المراقبين الأميركيين أمراً جديراً بالبحث والدراسة. ومع أن شعبية الرئيس بوش في البلدان الأوروبية مازالت متدنِّية، إلا أن وجود أصدقاء له مثل أنجيلا ميركل ونيكولا ساركوزي، ساهم إلى حد كبير في تنفيس الاحتقان في العلاقات الأوروبية- الأميركية الذي ظهر عقب غزو العراق عام 2003. لكن في مقابل ذلك يختلف الاستقبال الحافل الذي خُص به الرئيس بوش على هامش قمة الثماني، وبصفة خاصة خلال زيارته إلى ألبانيا، عن المخاوف المتنامية التي يبديها الأوروبيون والأميركيون من بعض المواقف والتحركات الروسية بقيادة الرئيس بوتين. فقد استفاد الرئيس الروسي من مداخل النفط المتدفقة لشن حملة على جبهات متعددة تسعى إلى استعادة مكانة روسيا السابقة بين الدول بعدما تعرضت لهزات عنيفة في فترة الرئيس "يلتسين"، وسقوط شرائح عديدة من الروس خلالها في حالة إفلاس وفقر، لذا أصبح مطلبهم الأول هو البحث عن قيادة قوية تضمن استقرار الأوضاع حتى لو كان ذلك على حساب الحريات المدنية. وبالفعل استطاع بوتين تلبية التطلعات الشعبية بأن فرض احترام السلطة وأعاد لروسيا هيبتها المفقودة. كما ضرب بقسوة على يد الشخصيات المتورطة في الفساد والضالعة في نهب ثروات البلاد إبان حكم الرئيس السابق "يلتسين"، لكنه أيضاً ضيق على الحريات المدنية التي أقرتها روسيا عقب انهيار الاتحاد السوفييتي، لاسيما حرية الصحافة إثر المضايقات العديدة التي تعرضت لها. ومع قدوم بوتين إلى الكرملين حرص على استقدام زملاء له سابقين عملوا إلى جانبه في جهاز الاستخبارات الروسية وأحاط نفسه بهم. وسرعان ما أصبح هؤلاء يثيرون بمواقفهم وتصرفاتهم في نفوس مواطني أوروبا الشرقية ذكريات قديمة غير محببة تذكرهم بالمرحلة الشيوعية البائدة، عندما كانت الشرطة السرية تتدخل في حياتهم وتحسب عليهم أنفاسهم. وليس غريباً في ظل هذا الوضع أن تجهر دول مثل ألبانيا وإستونيا وهنجاريا وبلغاريا والتشيك وبولندا بانتقادات لاذعة لبوتين، وهي التي اكتوت شعوبها بقمع الأنظمة الشمولية تحت المظلة السوفييتية. ولعل هذا ما يجعل الأصوات المنتقدة في تلك الدول أكثر حدة من نظيراتها في الدول الغربية التي لم تعش في كنف الاتحاد السوفييتي، ولم تذق ويلات القمع والتنكيل. فلم تمضِ حتى الآن سوى عشرين عاماً على إدارة "كي.جي.بي" لأجهزة الشرطة السرية في روسيا، ورعايتها لأجهزة أخرى في بلدان أوروبا الشرقية والوسطى، ومازالت الذكريات الأليمة حية في أذهان العديدين ممن عايشوا تلك الفترة العصيبة في تاريخ بلدانهم. وما أن تظهر في الأفق المساعي الروسية بقيادة بوتين لإعادة بسط النفوذ على دول أوروبا الشرقية والتضييق عليها، حتى يستحضر مواطنوها ثقل الماضي الطويل وما تخلله من قمع وتسلط مازالت تحاول الانعتاق من أعبائه، وترميم ما خلفه من تدهور اقتصادي ومشاكل اجتماعية إلى حد الآن. وفي هذا السياق لم يكن غريباً أن يحصل الفيلم الألماني "حياة الآخرين" على جائزة الأوسكار لهذا العام، لما برع فيه من تصوير معبر للدور السلبي الذي لعبته الشرطة السرية التابعة للنظام الشيوعي في ألمانيا الشرقية، المعروفة باسم "ستاسي"، وفضح ما كانت تقوم به وقتها لخنق الحياة العامة وكبح حرية التعبير. وقد استمرت الشرطة السرية "ستاسي" في إحكام قبضتها الحديدية إلى غاية 1984 قبل فترة قصيرة فقط من اندلاع الاضطرابات التي شهدتها ألمانيا الشرقية في السنوات التالية وانتهت بانهيار جدار برلين في عام 1989، واندماج الشطر الشرقي من البلاد مع الجزء الغربي الأكثر حرية وازدهاراً. وهكذا فإنه عندما يستقبل الألبان الرئيس بوش بترحاب كبير، على النحو الذي نقلته وسائل الإعلام، فإنهم يسعون إلى تذكير الأوروبيين بأنه على رغم الأخطاء الفادحة التي قد تكون إدارة الرئيس بوش ارتكبتها في العراق، إلا أن الحرب الباردة كانت أسوأ بكثير للملايين من المواطنين الذين كُتب عليهم العيش وراء ستارها الحديدي.