أوقعت المواجهات الدامية بين المجموعة الفلسطينية المسماة بـ"فتح الإسلام" والجيش اللبناني، العشرات من القتلى داخل مخيم "نهر البارد"، كما دفعت بالآلاف من الفلسطينيين إلى ترك منازلهم والفرار بعيداً عن المخيم. وفي خضم تلك المواجهة ألقى الجيش اللبناني، الذي كان على الدوام محط إجماع الفرقاء اللبنانيين وحظي بدعم الجميع، نفسه أمام اختبار حقيقي لمصداقيته. فهو من جهة يخشى أن يؤدي دخول المخيم الفلسطيني إلى سقوط أعداد كبيرة من القتلى المدنيين الذين مازالوا داخل مخيم "نهر البارد"، مع ما قد يثيره ذلك الأمر من احتجاجات واسعة، واتساع رقعة الاضطرابات، ومن جهة أخرى، فإن البقاء دون حسم الموقف سيعتبر عجزاً ذريعاً من قبل الجيش في مواجهة الجماعة المسلحة، وبالتالي ربما عزز ذلك من قوة الجماعات المتطرفة في المخيمات الفلسطينية المنتشرة فوق الأراضي اللبنانية. والواقع أن لبنان ليس سوى ضحية غير مباشرة للصراع الإسرائيلي- الفلسطيني، الذي مازال مستمراً دون حل. فقد هرب الآلاف من الفلسطينيين إلى لبنان كلاجئين بعد الحرب العربية- الإسرائيلية الأولى عام 1948 على أمل العودة قريباً إلى بلدهم، لكن المقام طال بهم في لبنان، وبدأت أحلام العودة إلى فلسطين تتلاشى. والحال أن هذا التدفق الفلسطيني على لبنان، هدد الطبيعة الديموغرافية الهشة التي تقتسمها الطوائف المختلفة. وما فتئت بعد ذلك أن تحولت التنظيمات الفلسطينية في لبنان إلى دولة داخل الدولة متخذة من الأراضي اللبنانية قاعدة خلفية لتنفيذ عملياتها ضد إسرائيل. وهكذا بدأت الحرب الأهلية إثر تعرض حافلة تقل فلسطينيين إلى اعتداء بإطلاق النار، قامت به مليشيات "الكتائب" المسيحية في عام 1975. وحتى بعد مغادرة المقاتلين الفلسطينيين للبنان عقب الغزو الإسرائيلي عام 1982 ودخول الدبابات الإسرائيلية إلى بيروت، بقي حوالى 400 ألف مدني فلسطيني في مخيماتهم. وظل الفلسطينيون في لبنان يعيشون حياة صعبة، لا يسمح لهم بتملك العقار، أو الحصول على الجنسية، كما أن أبناءهم لا يدخلون المدارس اللبنانية، ويمنعون من تقلد العديد من الوظائف. وتختلف التنظيمات الفلسطينية المتشددة مثل "فتح الإسلام" عن الفصائل الفلسطينية في الداخل، بل هي تعيب على "حماس" اعترافها غير المباشر بإسرائيل، وتنتقدها لهذا السبب. لكن في المقابل يشكل غياب أفق سياسي لحل الصراع الفلسطيني/ الإسرائيلي حافزاً إضافياً يغذي التنظيمات المتشددة ويعزز حضورها في الساحة الفلسطينية، ناهيك عن الأوضاع الاجتماعية المزرية التي يتخبط فيها الفلسطينيون داخل المخيمات. ولتجنب الحرج الذي يحدثه هذا التحليل بإشارته إلى العوامل الموضوعية المؤدية إلى انبثاق هذه التنظيمات المتطرفة يتم ترديد اسم سوريا باعتبارها الطرف الساعي إلى زعزعة استقرار لبنان، لاسيما بعد صدور قرار مجلس الأمن الدولي بشأن المحكمة ذات الطابع الدولي تحت الفصل السابع للبت في قضية اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق رفيق الحريري. وبصرف النظر عن علاقة سوريا بتنظيم "فتح الإسلام" ومدى تورطها في تسهيل تواجده، يشكل ظهور جماعة موالية لتنظيم "القاعدة" على الساحة الفلسطينية حملاً ثقيلاً على الفلسطينيين وعاملاً يهدد بزعزعة الاستقرار. وحسب الصحفي الأميركي المشهور "سيمور هيرش" الذي كشف فضيحة سجن "أبو غريب"، لا يمكن إبعاد الإدارة الأميركية الحالية عما يشهده لبنان من اضطرابات. فقد غيرت إدارة الرئيس بوش بوصلتها في الحرب على الإرهاب، ولم يعد التركيز منصباً على "القاعدة" فقط، بعدما كانت رأس الإرهاب الأول الذي يتعين قطعه، بل امتد إلى الهلال الشيعي، متمثلاً في "حزب الله" اللبناني والشيعة في العراق وإيران. فبعد إدراك "المحافظين الجدد" تنامي النفوذ الشيعي في المنطقة بسبب فشلهم في العراق، قرروا دعم الجماعات السلفية في المخيمات الفلسطينية بلبنان. لكن مهما تباينت التحليلات بشأن الظهور المفاجئ لجماعة "فتح الإسلام"، لا تساهم التطورات الأخيرة سوى في تأزيم الوضع الفلسطيني وتحميله أعباء إضافية، تربط قضيته بالإرهاب العالمي. وهذه التطورات التي تحفل بها الساحة اللبنانية، قد تبعث في نفوس بعض المسؤولين الإسرائيليين شعوراً بالابتهاج والارتياح، لاسيما فيما يتعلق بربط جماعة "فتح الإسلام" بتنظيم "القاعدة". ففي الوقت الذي تحل فيه الذكرى الأربعون على حرب الأيام الستة، وصدور القرار الأممي رقم 242، الذي يطالب بإعادة إسرائيل للأراضي المحتلة إلى أصحابها، وهو ما لم تقم به إلى غاية الساعة، يأتي هذا الربط بين "فتح الإسلام" و"القاعدة" كذريعة أخرى تبرر تمسك إسرائيل بالأرض المحتلة ورفض إعادتها متعللة بالخطر الإرهابي الذي يتهددها جراء ذلك، وبالتالي تبرير سياستها القائمة على الاحتلال. لكن أليست تلك السياسة نفسها، هي المسؤولة عن ظهور جماعات متشددة مثل "فتح الإسلام"؟ ذلك أن امتناع إسرائيل عن التفاوض مع الفلسطينيين، ورفض جميع الحلول السياسية التي تضمن حصول الفلسطينيين على حقوقهم وإقامتهم لدولتهم على الأراضي المحتلة تساعد في جزء كبير منها على تكريس شعبية تلك الحركات المتشددة وتسهم في توسيع رقعة التعاطف معها في الشارع الفلسطيني. ألم يؤد نبذ إسرائيل لياسر عرفات، ثم رفضها التفاوض مع محمود عباس إلى فوز حركة "حماس" في الانتخابات وصعودها إلى السلطة؟ ولعل استمرار إسرائيل في إدارة ظهرها إلى حكومة "حماس" المنتخبة ديمقراطياً يشكل عاملاً آخر لتفسير بروز "فتح الإسلام" على الساحة اللبنانية، على رغم أنها سياسة لم تؤد سوى إلى تجدد العنف وتجذر اليأس لدى الفلسطينيين. وما لم يعِ القادة الإسرائيليون هذه الحقائق ويكفوا عن إضعاف المؤسسات الفلسطينية، ثم يبادروا إلى إطلاق العملية السلمية من خلال مفاوضات مباشرة، فقد تشهد المنطقة ظهور جماعات أكثر تشدداً ستكون إسرائيل أول المتضررين منها. كما أنه لابد من فتح آفاق سياسية جديدة أمام الفلسطينيين تشجعهم على الانخراط في الحلول السياسية والتخلي عن تبني العنف كوسيلة للنضال؛ أما أن تواصل إسرائيل رهانها على الفوضى الفلسطينية لسحب التعاطف الدولي من قضية الشعب الفلسطيني، فإن ذلك سيعود بالوبال على إسرائيل بالذات، قبل غيرها.