يشهد العقد الحالي تغييرات دولية متسارعة، ظهرت بوادرها في أنحاء متفرقة من العالم، وتُنبئ في مجملها بتغيير البنية الدولية بالانتقال من نظام القطبية الأحادية إلى نظام متعدد الأقطاب، قائم على الشراكة الدولية، فأوهام القوة العسكرية والاقتصادية والسياسية الأميركية، إضافة إلى السياسات الاستراتيجية الأميركية خلقت بيئة دولية معادية للسياسة الأميركية. فسياسات العسكرة التي يتبناها الرئيس الأميركي جورج بوش، تستمد جذورها من الفكر "الريجاني"، فجاءت قضية نشر درع الصواريخ الأميركية في بولندا والتشيك، لتفرض تساؤلاً جوهرياً حول النزعة الإمبراطورية العالمية الجديدة للولايات المتحدة وحدود أوهام السيطرة الكونية في ظل مشهد دولي آخذ بالتبلور. يثير المشروع الأميركي لإنشاء درع صاروخي في شرق أوروبا والمتضمن نشر عشرة صواريخ من طراز "سيلوس" في بولندا ومحطة رادارية في جمهورية التشيك معارضة شديدة من جانب روسيا، التي هددت بإعادة توجيه الصواريخ الروسية نحو القارة الأوروبية، إذا سارت الولايات المتحدة قدماً في خططها الخاصة بالدرع الصاروخي، وشهد اجتماع الدول الثماني الكبرى عرضاً روسياً مثيراً؛ إذ من اقتراح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين استخدام محطة رادار روسية في جمهورية أذربيجان بدلاً من محطات الرادار، التي تنوي الولايات المتحدة نصبها في كل من بولندا وجمهورية التشيك، فيما بوغت الرئيس الأميركي جورج بوش بالعرض الروسي، ووصفه بأنه "جدير بالاهتمام"، وأن الجانب الأميركي سيقوم بدراسته. ولعل التساؤل الأدعى للطرح: ضد من ستوجه الدرع الصاروخية؟ تتزايد الأصوات المشككة في صلة التهديدات المحتملة لأمن الولايات المتحدة من قبل كوريا الشمالية وإيران، فإذا كان المتحدث مجنوناً فالمستمع عاقل، فلا يمكن بأي حال من الأحوال أن يصدق العالم مقولة إن الدرع الصاروخية موجهة ضد دول لا تملك صواريخ بمدى يصل إلى أوروبا. الرئيس الأميركي ردد أن الحرب الباردة انتهت، فلماذا تُنصب الصواريخ على الحدود الروسية؟ مستشار الأمن القومي الإيراني علي لاريجاني، علق على تصريحات بوش بأنها "نكتة الموسم" مؤكداً على صعوبة تصديق أن الولايات المتحدة لا تدرك مدى الصواريخ الإيرانية، والتي لا يمكن أن تصل إلى أوروبا، كما أن مهاجمة إيران لأوروبا لامنطقية على اعتبارها أهم شريك تجاري لإيران. في الوقت الذي أعلن فيه رئيس لجنة "مجلس الدوما" للشؤون الدولية "قسطنطين كوساتشوف"، أن نشر الدرع الصاروخية الأميركية، "يعني أن المنظومة موجهة ضد روسيا". كان انتهاء الحرب الباردة الحدث الأبرز في نهاية القرن العشرين، حدث ساهم في تسريعه انهيار الاتحاد السوفييتي، بعد أن تبنت إدارة الرئيس الأميركي الأسبق "رونالد ريجان" مشروع "مبادرة الدفاع الاستراتيجي" المعروف بمشروع "حرب النجوم". وسرعان ما انهارت دول الكتلة الشرقية، لتتوج هذه الانهيارات المتسارعة بسقوط جدار برلين، وبدء تفكك الاتحاد السوفييتي إلى جمهوريات مستقلة، سرعان ما انتشرت فيها الروح القومية العرقية، مُنبئة بالمزيد من التفكك والانفصال. في عالم القطبية الثنائية، كانت سياسة الاحتواء هي المحرك الأساسي للسياسات الأميركية، واستراتيجية حكمت حقبة من القرن الماضي، إلا أن انهيار عدو بحجم الاتحاد السوفييتي ودول حلف "وارسو"، ترك الولايات المتحدة دون استراتيجية كبرى، تحكم علاقاتها الخارجية، في الوقت الذي انكفأ فيها عدوها التقليدي يلملم آثار الانهيار الصاعق. ولعقدٍ من الزمن، لم تواجه الولايات المتحدة تهديداً حقيقياً لأمنها. ورغم وجود نقاط ساخنة ومحاور ثلاثة للشر، فإنه وبتحليل واقعي لا تشكل هذه المحاور تهديداً للأمن القومي الأميركي، وحتى حادثة الحادي عشر من ديسمبر التي أوضحت الأشكال الجديدة للفاعلين في النظام الدولي، فتبنت واشنطن على إثرها رؤية عسكرية لمحاربة الإرهاب الدولي. غير أن ميوعة تعريف الإرهاب وعدم وجود تهديدات إقليمية جدية ومباشرة لأمن الولايات المتحدة أدى بواشنطن إلى تبني استراتيجية دفاعية، تقوم على مبدأ الردع لصالح الهجوم، وليس الردع لصالح الدفاع؛ إذ تبنت وزارة الدفاع الأميركية ما عرف بخطة الطوارئ الهادفة إلى إعادة تقييم الوضع النووي، والتي اعتبرت أساساً لسياسة نووية أميركية جديدة، محدثة انقلاباً عسكرياً بتبنيها مفهوم الحرب الاستباقية لحماية حليف أو تدمير أهداف مستعصية، أو الرد على هجوم غير تقليدي، وأشارت هذه الخطة إلى عدد من الدول كأهداف محتملة هي (روسيا والصين وكوريا الشمالية وإيران والعراق وسوريا وليبيا). أثارت الخطة الدفاعية الأميركية هذه علامات استفهام حول الاستراتيجية الدفاعية بحد ذاتها. فعلى رغم تغير الظروف السياسية في المناطق الساخنة في العالم لجهة التصعيد، خاصة مع دخول كوريا الشمالية النادي النووي، وتسارع الخطوات الإيرانية لامتلاك التقنية النووية، والتي لازالت تجادل في أنها "سلمية"، إلا أن كل ذلك لا يُشكل مصادر تهديد محتملة للأمن الأميركي، إلا في كونها مصادر تهديد لحفائها الإقليميين. في القارة الأوروبية كان ختام القرن العشرين دراماتيكياً بكل المقاييس، فانتهاء الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفييتي كنمر من ورق، وزوال التهديد العسكري الروسي المباشر، وزوال حلف "وارسو" أدت بالضرورة إلى زوال الأسباب المنطقية لاستمرار حلف شمال الأطلسي وحتى للوجود العسكري الأميركي في أراضي الدول الأوروبية فيما كان يُعرف بسياسة الردع، لكن بدلاً من ذلك بدأت مرحلة الأمن الأوروبي القائم على توسيع التحالف مع الولايات المتحدة وضم دول جديدة، فيما عرف آنذاك بـ"الشراكة من أجل السلام"، وأعيد تعريف مسؤوليات الحلف لتتجاوز مسألة الدفاع عن أوروبا الغربية إلى إدارة الأمن في أوروبا بشكل عام، وتسارع انضمام دول حلف "وارسو" لحلف "الناتو" حتى وقف على أعتاب روسيا. منذ البداية ظهر جلياً أن توسيع حلف شمال الأطلسي، يثير حساسية روسيا رغم إعادة تأكيد دول الحلف على أن التوسع ليس موجهاً ضد موسكو، إلا أن كل خطوة لضم دول جديدة للحلف، تدفع بموسكو للتشكيك في أن الحلف موجه ضدها. برز خلال العقد الماضي أن لغة الصدام كانت حاضرة، فيما استمرت الدول الأوروبية بالحديث عن شراكة مميزة، تدفع لاحتواء المخاوف الروسية ولاحتواء غضبة ساستها. اليوم من المبكر الحديث عن أزمة علاقات روسية/ أميركية- أوروبية لكن مؤشرات الاختلاف، أوضح ما يكون وسياسات الاحتواء ممثلة بالدرع الصاروخي لا تجد مبررات عملية إلا في كونها استفزازاً للروح القومية لدى الروس الذين رغم كبواتهم لازالوا يمتلكون ترسانة نووية وتأثيراً عسكرياً. إن السعي الأميركي في ظل سياسات "المحافظين الجدد" لجعل القرن الحادي والعشرين قرناً أميركياً بامتياز، وإنْ كانت شهدت نجاحات دولية متفاوتة، إلا أن التفرد الأميركي محل تساؤل، خاصة وأن الانفراد في إدارة العلاقات الدولية يتطلب القيادة لا الهيمنة.