ربما يتذكر عدد ضئيل للغاية من شباب العرب نكسة يونيو/ حزيران 1967، التي جاءت كنتيجة حتمية ومباشرة لتحدي بعض الزعماء العرب لإسرائيل، ومن ورائها القوة العظمى، الولايات المتحدة الأميركية، واستفزازهم وتهديدهم لها، دون أن يكونوا مستعدين بصورة واقعية وعملياتية وكافية لمواجهتها، أو على الأقل تحمل تداعيات الصراع العسكري معها، فكانت الهزيمة "نكسة" وستظل ملتصقة بالتاريخ العربي أبد الدهر، فقد استطاعت الدولة العبرية الصغيرة العدد والمساحة هزيمة ثلاثة جيوش لدول عربية تفوقها قدرة وإمكانيات ومساحة في نحو ستة أيام. ومن الغريب أنه لم تحدث مراجعة أو محاسبة سياسية كانت أو عسكرية لمن يتحملون مسؤولية الهزيمة، وربما يرجع ذلك إلى سبب بسيط هو "الاختطاف" السياسي و"الغيبوبة" الإعلامية للمجتمعات العربية حينئذ، نتيجة لمحاولة خداع النفس بأننا خسرنا الحرب ولم نخسر إرادتنا في الكفاح، وأن تحطيم القوة العسكرية يجب ألا يترتب عليه تحطيم قوانا النفسية. لذلك اعتبرها الإعلام جولة أو كبوة أو نكسة سيقوم بعدها "المارد العربي" من قمقمه وينفض غبار الهزيمة ويمحو آثارها إلى الأبد، إلا أن التاريخ المعاصر أثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن هذه النكسة مستمرة وممتدة ربما لفترة طويلة قادمة. فاليوم ورغم مرور أربعين عاماً على هذه النكسة، لا زلنا نعيش ظروف وأجواء نكسة بل ونكسات، من العراق إلى لبنان مروراً بسوريا ثم السودان فالصومال فدول المغرب العربي، ومعظمها إن لم يكن كلها، حدث كنتيجة حتمية أيضاً لتحديات وتهديدات لم يتعامل معها بعض الزعماء العرب بالجدية اللازمة، بل لم يكونوا مستعدين أصلاً لمواجهة تداعياتها. لقد بدأ التاريخ الحالي للنكسات مع قيام الثورة في إيران في فبراير 1979، حيث أعلن زعماؤها منذ البداية ودون لبس أو غموض أو حتى محاولة من باب المجاملة، أنها ثورة سيجري تصديرها إلى الخارج، وبالطبع لم يكن هذا الخارج سوى الدول العربية من الخليج إلى المحيط، ورغم هذا لم يدرك العرب حينها الأسلوب الأمثل للتعامل مع هذا الطموح الثوري الفارسي. لذلك انتشر العنف الداخلي في كثير من الدول العربية سواء بدعم مباشر أو غير مباشر من الثورة الإيرانية بعد أن شكلت يدها الخارجية "الحرس الثوري" الذي بات مسؤولاً عن حماية النظام الثوري داخل إيران، وتصدير الثورة إلى خارجها لإقامة أنظمة ثورية في الدول الأخرى، لأن "الثوريين" يستطيعون أن يتفاهموا فيما بينهم. فكان الثمن ما حدث في بعض دول الخليج العربية من أعمال عنف وإرهاب، وما يحدث اليوم في دول أخرى مثل لبنان والعراق واليمن وفلسطين. واستمراراً لنكسة اليوم استطاعت بعض القوى الداخلية في الدول العربية استثمار يأس الشباب من الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تواجههم في دفعهم إلى التطرف والإرهاب، وكأن العرب لم يكفهم المؤامرات الخارجية فقرروا التآمر من الداخل وترويع الآمنين وتدمير البنية الاجتماعية في "ثورة" تزعم حمل راية الإسلام والجهاد. ونتيجة لعدم إدراك معظم الدول العربية أبعاد هذه الثورة الإرهابية وتداعياتها على الأمن الوطني والتنمية الشاملة ظلت العمليات التدميرية تزيد وتخبو في موجات تبيد الأخضر واليابس، فانشغل الجميع بنكسة داخلية عن مواجهة النكسات الخارجية. ولأن النكسات لا تأتي فرادى، فسرعان ما حدثت نكسة الغزو العراقي للكويت في أغسطس 1990، لتكون نتائجها الكارثية على شعوب المنطقة مستمرة حتى اليوم، فقد كان هذا الغزو مفتاحاً لباقي النكسات، من حصار مدمر للشعب العراقي، إلى السماح بالتدخل الأجنبي في جميع المشكلات والأزمات العربية، إلى جذب أنظار المجتمع الدولي بعيداً عن الأراضي الفلسطينية بما يسمح للدولة العبرية بأن تنفرد بالفلسطينيين لتصفيتهم. ثم جاء الغزو الأميركي للعراق ليزيل بالقوة العسكرية نظاماً استبدادياً حكم بالإرهاب عقوداً عدة، بهدف معلن هو تحرير إرادة الشعب العراقي ومنحه حق تقرير المصير، كطريق إلى فرض السيطرة الأميركية على نفطه وضمان أمن إسرائيل، إلا أن الدولة العراقية انهارت وتبعثرت أشلاؤها في خضم ثلاثة صراعات مصيرية تستخدم أقصى درجات العنف لفرض مصالحها، صراع داخلي طائفي ومذهبي بين شيعة وسُنة، وصراع آخر بين المقاومة وقوة الاحتلال، وصرع ثالث بين قوى الإرهاب والشعب العراقي، ليبدأ فصل جديد من النكسات سيضم في المستقبل القريب صراعاً عسكرياً بين تركيا وأكراد العراق، ومن المتوقع أن تشارك فيه قوى خارجية أخرى تشعر بخطر قيام دولة "كردستان العظمى". ولم تكن لبنان بعيدة عن هذه النكسات فقد أصابها العديد من منها، وسقطت في صراعات سياسية ودموية، بعضها أطرافه داخلية وكثير منها يتم بالوكالة لصالح أطراف خارجية، وليكون قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1757، مدخلاً لفصل جديد في كتاب نكسات العرب، حيث كرَّس القرار لأول مرة استخدام القوة المسلحة لفرض مسألة المحكمة الدولية بشأن اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق الحريري. وقد تزامن صدور قرار مجلس الأمن الدولي مع استمرار القتال الدائر بين عناصر مسلحة تابعة لتنظيم يدعى "فتح الإسلام"، والجيش اللبناني حول احترام "سيادة الدولة"، ومن المؤكد أن "حزب الله" اللبناني يراقب عن كثب ما سيسفر عنه هذا القتال، فإذا كان النصر حليفاً لـ"الدولة اللبنانية" فإن هذا يعني أن الدور سيأتي على سلاح "حزب الله" لتجريده منه، ويصبح كياناً عادياً داخل الدولة، وهو أمر ترفضه إيران وسوريا بالتأكيد، قبل أن يرفضه زعماء الحزب. ولكن أبعاد النكسة في لبنان تزداد تعقيداً، وتنذر بـ"عراق جديد" في ظل احتمالات توسيع نطاق العمليات بمحاولة بعض عناصر "جند الشام" فتح جبهة جديدة في مخيم اللاجئين الفلسطينيين بعين الحلوة، وربما يمتد ذلك إلى مخيمات أخرى، مما سيسمح بمزيد من التدخلات الخارجية ويدخل لبنان دوامة جديدة من الحرب الأهلية. ونظرة سريعة على أقواس الأزمات المشتعلة حالياً في الشرق الأوسط، حيث يمتد القوس الأول من باكستان إلى العراق مروراً بأفغانستان وإيران، والقوس الثاني الذي يمتد من لبنان إلى فلسطين مروراً بسوريا، والقوس الثالث الذي يمتد من السودان إلى الصومال مروراً بأثيوبيا، سنجدها تشترك في كثير من السمات، فهي تتسم بالفوضى ودخولها في حلقة مفرغة من العنف، وتضم صراعات "داخلية- خارجية"، تستنزف القوى الاقتصادية والعسكرية وتسمح بتفكك اللحمة الاجتماعية لشعوب هذه الدول وضياع هويتها، وفي الوقت ذاته تسعى إلى تقويض سيادة الدولة، وتسمح بانتشار الإرهاب، في أسوأ صوره، وتشير إلى ضعف القدرات الإقليمية على التدخل لحلها، بل وعدم وجود قوة إقليمية مركزية يمكن أن تتدخل لوضع حد لأي صراع، كما تسمح للقوة العظمى الوحيدة بأن تفرض مصالحها وتستعرض قواها العسكرية وتهدد الأنظمة الحاكمة في المنطقة بأسرها. لذا فإن السؤال الذي يفرض نفسه بشدة الآن: ماذا يتعين على دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية أن تفعل في مواجهة هذه النكبات بدلاً من أن تظل في موقف رد الفعل؟ الإجابة ببساطة تكمن في شيئين، هما الاستمرار بأقصى معدل في خطط التنمية الشاملة من جانب، ووضع اتفاقية الدفاع الخليجي المشترك الموقعة في ديسمبر 2000 موضع التنفيذ الفعلي من جانب آخر. فالخروج من حقبة النكبات يستدعي الهروب بأقصى سرعة إلى المستقبل، حتى لا تصل عدواها إلى منطقة الخليج، ولكن هذا لا يمنع من أن تكون هذه الدول مستعدة عملياً لكافة الاحتمالات، فالمستقبل ينذر بوجود مؤامرة تجري حالياً بين الولايات المتحدة الأميركية وإيران لإعادة توزيع مناطق النفوذ على حساب العرب في شكل "سايكس-بيكو" جديدة.