حكم قاضٍ أميركي تواً على مسؤول أميركي كبير بقضاء 30 شهراً في السجن بتهمة الكذب. وقد أطلق هذا الحكم مجدداً ذلك السجال الأميركي حول المسؤولين والكذب.. وهو سجال تكرر كثيراً في التاريخ الأميركي الحديث. والحالة الأخيرة تتعلق بالسيد "لويس سكوتر ليبي" مدير مكتب "ديك تشيني" نائب الرئيس الأميركي. وبسبب حساسية منصبه كان يعهد إلى "ليبي" بالمحافظة على أكثر أسرار الدولة خطورة، وهو ما جعله يتمتع بنفوذ كبير لدى ثاني أقوى رجل في الولايات المتحدة "ديك تشيني". وقد تمت إحالة "ليبي" للتحقيق أمام سلطات إنفاذ القانون، بتهمة الكشف عن شخصية موظفة سرية في وكالة الاستخبارات المركزية ألأميركية، وهي سيدة تدعى "فاليري بليم ويلسون". وعندما تم استجواب "ليبي" حول ذلك كذب على قاضي التحقيق بشأن تسلسل الأحداث التي أدت إلى الكشف عن شخصية تلك الموظفة السرية. وقال القاضي إن الأدلة على كذب "ليبي" كانت عديدة، ولا تحتمل أي شك، وإنه لذلك قد قرر إرساله إلى السجن بتهمة "الكذب على السلطات وإعاقة عمل العدالة". أما أنصار "ليبي" فيقولون إنهم مستاءون كثيراً لأن الحكم في نظرهم غير عادل، وأنه يجب ألا يذهب إلى السجن على الأقل بسبب الخدمات التي قدمها لأمته. يشار هنا إلى أن "ليبي" قد حكم عليه بالسجن ليس بتهمة الكشف عن شخصية السيدة "ويلسون" -وهي جريمة خطيرة في حد ذاتها- وإنما بسبب الكذب على السلطات، وهي جريمة أخرى تفوق في جسامتها الجريمة الأولى. وأصر القاضي الذي أصدر الحكم على أنه يجب عدم إعفاء المسؤولين تحت أي ظرف من الظروف من الخضوع للمحاكمة بتهمة الكذب، وأنه يجب أن تنزع عنهم أية حصانة تحول دون ذلك، وأنهم يجب أن يكونوا مسؤولين عن أخطائهم كاملة مثلهم في ذلك مثل أي مواطن عادي، وأنهم يجب أن يكونوا أكثر حرصاً من غيرهم على الأمانة بشأن كل ما يصدر عنهم من أقوال، خصوصاً وأنهم يتمتعون بثقة الرأي العام بسبب طبيعة الوظائف التي يشغلونها. ورأي القاضي بشأن الكذب يعكس رأياً مألوفاً سبق لنا سماعه في العديد من المرات من قبل في التاريخ الأميركي. ومثل هذا الرأي كان له تأثير كبير على تحديد مصائر رؤساء مثل "ريتشارد نيكسون"، و"بيل كلينتون"، كما أنه يؤثر أيضاً على سمعة الرئيس الحالي جورج بوش. فعندما كان "نيكسون" رئيساً، أقدم عدد من أعوانه على اقتحام مكاتب تابعة للحزب "الديمقراطي"، وعندما تم اكتشاف هذا الأمر أنكر "نيكسون" علمه بأي شيء يتعلق بهذا الموضوع. وفي نهاية المطاف تبين أن ما قاله "نيكسون" كان كاذباً، وهو ما دعا لإحالة المسألة في ذلك الوقت إلى الكونجرس الذي هدد بإدانة الرئيس وتوجيه اللوم له، بل وإقالته من منصبه بسبب ذلك. ونظراً لأن "نيكسون" أدرك في ذلك الوقت أن الكونجرس يوشك على إقالته بالفعل، قرر استباق الأمور وأقدم على تقديم استقالته طوعياً قبل أن تنتهي مدة ولايته. ومعنى ذلك أن إقدامه على الكذب، وليس تكليف أنصاره باقتحام مقر الحزب "الديمقراطي"، هو الذي أجبره في النهاية على ترك منصبه مبكراً وتعريضه للفضيحة والعار. وعندما كان بيل كلينتون رئيساً وارتكب عملاً لاأخلاقياً مشيناً من خلال علاقة أقامها غير نزيهة مع متدربة بالبيت الأبيض، وأحيل للتحقيق، أنكر أنه قد ارتكب ذلك الفعل المُشين من أجل حماية سمعته وإخفاء الأمر عن زوجته -كما قال لاحقاً. وفيما بعد وعندما توافرت أدلة على كذبه، بدأت المعارضة في الكونجرس اتخاذ الإجراءات اللازمة لإدانته، وإجباره على ترك الحكم، قبل انتهاء مدة ولايته. وفي النهاية اضطر كلينتون وبعد جلسات تحقيق مطولة، إلى الإقرار بكذبه، والاعتذار عنه، مما جعل الكونجرس يتغاضى عن مسألة إدانته وإقالته، ولكن بعد أن فقد سمعته إلى الأبد، لأنه حاول إخفاء الحقيقة في البداية. أما الرئيس "جون كنيدي" فقد قدم للتاريخ حالة مختلفة تماماً. فعندما كان رئيساً اقترحت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية عليه غزو كوبا لإطاحة فيدل كاسترو. ووافق كنيدي على الخطة، ومضت الوكالة قدماً في تنفيذها، ولكن الخطة انتهت بفشل ذريع كما هو معروف. وعندما تكشفت الخطة سُئل كنيدي عنها، فاعترف بأنه كان يعرف بها منذ البداية، وبأنه قد وافق عليها عندما عُرضت عليه، وأنه يتحمل المسؤولية كاملة عن كل ذلك. وقال آنذاك عبارة مأثورة هي: "للنجاح آباء كثيرون، أما الفشل فهو يتيم". وباعترافه بالخطأ بدون تسويف، وإعلانه استعداده لتحمل المسؤولية عنه، لم ينجُ كنيدي من اللوم فحسب، بل نال الثناء على ما تحلى به من شجاعة وحس عالٍ بالمسؤولية، على العكس من نيكسون وكلينتون اللذين تعرضا لمتاعب سياسية جمة، بسبب محاولة الكذب أو التغطية على الأخطاء. وموضوع الكذب أثير أيضاً فيما يتعلق بالرئيس الحالي جورج بوش. فعندما أصدر بوش أوامره بغزو العراق عام 2003 زعم أن سبب إقدامه على ذلك الغزو هو أن صدام كان يمتلك أسلحة دمار شامل. وفيما بعد تبيَّن أن صدام لم يكن يمتلك تلك الأسلحة، وقال الكثيرون إن بوش قد كذب متعمداً في هذا الشأن كي يجد عذراً للغزو. ولكن أنصار بوش يقولون إنه لم يكذب، وإنما تعرض للتضليل بسبب ما كان يقدم له من تقارير استخباراتية غير دقيقة. والجدل المتعلق بهذه المسألة لا يزال مستمراً حتى اليوم على رغم مضي أربعة أعوام كاملة على الغزو. ومسألة الكذب أثيرت كذلك بالنسبة لصدام حسين أيضاً. فقد أصبح معروفاً الآن أنه لم تكن لديه أسلحة دمار شامل، ولكنه كان يكذب بشأن ذلك لإعطاء أجهزة الاستخبارات في مختلف أنحاء العالم انطباعاً بأنه يمتلك مثل تلك الأسلحة، علاوة على أنه لم يتح للعالم فرصة معرفة ما إذا كان ما يقوله صحيحا أم لا، لأنه لم يسمح لفرق التفتيش بالقيام بتفتيش كامل في العراق. وربما يكون السبب في إقدام صدام على محاولة خداع الجميع وإقناعهم بأنه يمتلك تلك الأسلحة اعتقاده بأن ذلك قد يكون سلاح ردع يحول بين الأعداء وبين مهاجمته. والسؤال هنا: هل كذب الرجل حقاً؟ أم أنه ترك الآخرين يعتقدون شيئاً يريد هو منهم أن يعتقدوه. وشيء مماثل لذلك حدث عام 1967 عندما أعلن الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر أن الولايات المتحدة قد شاركت بشكل مباشر في الهجوم على مصر، في حين أن الحقيقة لم تكن كذلك. هل كان نظام ناصر يكذب أم أن غرضه كان استخدام هذا الاتهام كمبرر لقطع العلاقات مع الولايات المتحدة الأميركية.. أم أنه قال ذلك بسبب المعلومات الاستخباراتيه الخاطئة التي قدمت له في ذلك الوقت كما قيل بعد فترة؟ بعض الأميركيين يعتقدون أن الحكومة ذاتها تكذب طول الوقت، في حين يثق البعض الآخر منهم في الحكومة. وعلى أي حال، وسواء كان الأمر على هذا النحو أم ذاك، فإن الساسة والأشخاص المهمين مثل "لويس سكوتر ليبي" ممن لا يقولون الحقيقة، يجب أن يدفعوا الثمن عندما يتم ضبطهم متلبِّسين بالكذب الصفيق.